أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الفصل الرابع
أحداث قبل بعثة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
((زيد بن عمرو بن نفيل))
((الباحث عن الحقيقية))
لازلنا في حديثنا عن أهم الأحداث قبل مولد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنتحدث عن شخصية هامة جدًا ظهرت قبل بعثة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو "زيد بن عمرو بن نفيل"
و"زيد بن عمرو بن نفيل" من الشخصيات التى تستغرقني منذ سنوات، ومنذ نعومة أظافري وأنا لا زلت منبهرًا بهذه الشخصية
و"زيد بن عمرو بن نفيل" من القلائل جدًا الذي رفض عبادة الأوثان، ليس هذا فحسب بل هو رفض اليهودية ورفض النصرانية، وأخذ يبحث عن الدين الحق، يعنى أخذ يبحث عن الاسلام قبل أن يبعث النبي –صلى الله عليه وسلم-
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
البداية
تقول سيرة "زيد بن عمرو بن نفيل" أن قريش في أحد أعيادهم كانوا يذبحون عند وثن لهم، فاجتمع نفر من قريش، وهم "زيد بن عمرو بن نفيل" و"ورقة بن نوفل" ابن عم السيدة خديجة، والذي سيكون أول من يؤمن بالنبي –صلى الله عليه وسلم- و"عثمان بن الحويرث" و"عبد الله بن جحش" وسيؤمن بعد ذلك ويكون من الصحابة، وأخته "زينب بنت جحش" والتى ستتزوج الرسول –صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك
كانوا جميعًا يعرفون بعضًا جيدًا، ويعلمون أيضًا أنهم يرفضون عبادة الأصنام، وقالوا:
- تعلمن والله ما قومكم على شيء، ما وثن يعبد لايضر ولا ينفع ؟ فابتغوا لأنفسكم
يعنى كل واحد يبحث عن الدين الحق
رحلة البحث عن الدين الحق
خرج "زيد بن عمرو بن نفيل" هو و "ورقة بن نوفل" الى الشام يبحثان عن الدين الحق، وجلسا مع علماء اليهود، وجلسا مع علماء النصاري، واقتنع "ورقة بن نوفل" بالنصرانية وتنصر، وقرأ كثيرًا بعد ذلك في كتب النصاري، وتعلم اللغة السريانية والعبرية، وترجم التوراة الى اللغة العربية، وأصبح من أكبر علماء النصاري
أما "زيد بن عمرو بن نفيل" فبحث حتى وصل الى أكبر عالم من علماء اليهود، وقال له: أخبرني عن دينك، فقال له هذا العالم: لا تكون على ديننا، حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، لأن هذا العالم يعلم أن اليهود مغضوب عليهم، لأن عندهم علم بدون عمل، فرفض "زيد بن عمرو" اليهودية، وقال له: ما أفر الا من غضب الله ! وأني أستطيعه ؟! يعنى كيف أطيق غضب الله تعالى علىَّ
ثم قال لهذا العالم: هل تدلني على غيره ؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد : وما الحنيف ؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله
ثم بحث "زيد بن عمرو" حتى جلس مع أكبر عالم من علماء النصاري، وسأله عن دينه، فقال له: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال : ما أفر إلا من لعنة الله ! وأني أستطيعه ؟!
ثم قال لهذا العالم أيضًا: هل تدلني على غيره ؟ فأجابه بنفس اجابة العالم اليهودي، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف ؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله
هكذا اجتمع رأي أكبر عالم في اليهود، وأكبر عالم في النصاري على أن الدين الحق هو دين ابراهيم، فخرج زيد من عندهما ورفع يديه وقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم
وأخذ "زيد بن عمرو بن نفيل" يبحث عن هذا الدين، دين الحنيفية، دين ابراهيم "عليه السلام" سافر الى الشام والى الموصل –العراق الآن- والجزيرة كلها يبحث عن دين ابراهيم
ولكن كان دين ابراهيم قد اندرس، واختفي لأن الوقت بين ابراهيم وبين بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- كان ألفين وثمانمائة سنة، ولذلك كان "زيد بن عمرو بن نفيل" يدعو ويقول "اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم"
لم يعد من دين ابراهيم الا بقايا، مثل تعظيم الكعبة، والحج اليها، وكانت بعض شعائر الحج لا تزال موجودة، مثل الطواف بالطعبة، ومثل السعي بين الصفا والمروة، ولذلك المسلمون تحرجوا عند الحج والعمرة من السعي بين الصفا والمروة، لأنه أمر كانوا يفعلونه في الجاهلية، فنزل قول الله تعالى في سورة البقرة {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أَو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} يعنى يسعى بينهما، ولكن باستثناء ذلك فقد كانت باقي الشعائر قد حرفت، كان هناك تلبية، ولكن كانت صيغة التلبية "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، الا شريكًا هو لك تملكه وما ملك" كان هناك ذبح الأضحية، ولكن كان الذبح للأصنام، وهكذا
وبدأ "زيد بن عمرو بن نفيل" يعمل عقله في كل ما يراه من شعائر دينية وعادات اجتماعية، فاذا كانت موافقة للعقل والفطرة السليمة فهي من بقايا الحنيفية التى سلمت من التحريف، واذا لم تكن موافقة للعقل والفطرة فهي من تحريف العرب
فكان مثلًا لا يوافق على أن تذبح الذبائح للأصنام، ولا يأكل الا ما ذكر عليه اسم الله فقط، وكان ينتظر وقت زوال الشمس، وهو وقت صلاة الظهر فيستقبل الكعبة، ويصلى باتجاه الكعبة ركعة فيها سجدتين
المواجهة مع قريش
وبدأ "زيد بن عمرو بن نفيل" ينكر على قريش عبادتها للأصنام، ويقول أنها أحجار لا تضر ولا تنفع، وينكر الذبح للأصنام ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض، لم تذبحوها على غير اسم الله؟
وكان ينكر الزنا، وانتشاره في قريش ويقول: يا معشر قريش إياكم والزنا، فإنه يورث الفقر
كان ينكر كذلك وأد البنات، ليس هذا فقط بل كان اذا علم أن رجلًا يريد أن يقتل ابنته يذهب اليه ويقول: لا تقتلها، ادفعها إلي أكفلها، فإذا ترعرعت فإن شئت فخذها
وبدأت قريش تسخر من "زيد بن عمرو بن نفيل" وتؤذيه، وكان أكثر من يؤذيه هو أخوه لأمه "الخطاب بن نفيل" وهو أبو عمر بن الخطاب، كما كان عمر قبل اسلامه هو أكثر قريش ايذاءًا للمسلمين لدرجة ان الكفار كانوا يفتخرون أن عمر يضرب المسلمين بيده، كان الخطاب أبو عمر أكثر قريش ايذاءا لزيد ابن عمرو بن نفيل، بالرغم من أنه –كما قلنا- أخوه لأمه
"الخطاب بن نفيل" لم يكتف بذلك بل كان يوصى شباب قريش وسفهائها بايذاء "زيد بن عمرو بن نفيل" لدرجة أنهم طردوه خارج مكة، فكان لا يدخل مكة الا سرًا، فاذا علموا به آذوه وأخرجوه، وكان ممن يؤذيه زوجته "صفية بنت الحضرمي" فكان اذا دخل مكة، أخبرت الخطاب، ليؤذيه
مشهد تمثيلى لمكة قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
"زيد بن عمرو" يترقب ظهور الرسول
برغم ايذاء أهل مكة لزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان مصرًا على البقاء بمكة، وربما يخرج الى الشام أو غيرها ولكنه كان يعود الى مكة بعد ذلك لأنه كان قد سمع من علماء اليهود والنصاري أن هذا الزمان هو زمان ظهور نبي، وأن هذا النبي سيظهر بمكة، وأنه آخر الأنبياء وأفضل الأنبياء، لذلك كان مصرًا على البقاء بمكة، أو على الأقل أن يخرج منها كلما اشتد عليه الإيذاء ويعود اليها مرة أخري
عن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك.
قلت: هلم! قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكان من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره.
يقول عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله قول زيد بن عمرو، وأقرائه منه السلام، فرد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه السلام وترحم عليه، وقال: «قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا» يعنى عليه ملابس من ملابس الجنة يسحبها
وفاته
ظل "زيد بن عمرو بن نفيل" في الشام هربًا من ايذاء أهل مكة، ثم يعود الى مكة مرة أخري في انتظار ظهور النبي، وفي مرة في أثناء عودته من الشام الى مكة، عدي على القافلة بعض الرجال وقتلوه، ودفن بالشام، وكان ذلك قبل بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- بخمسة أعوام فقط
أبناءه
كان من أبناء "زيد بن عمرو بن نفيل" : سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المبشرون بالجنة، وكان مستجاب الدعوة، وهو الذي تزوج فاطمة بنت الخطاب، أخت "عمر بن الخطاب"
ومن أبناء "زيد بن عمرو بن نفيل" أيضًا: عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت –رضى الله عنها- من السابقات الى الإسلام ومن المهاجرات، وكانت مشهورة بالجمال والفصاحة وتزوجت "عبد الله بن أبي بكر الصديق" ثم تزوجت "عمر بن الخطاب" ثم تزوجت "الزبير بن العوام" ثم "الحسين بن على" حتى أطلق عليها زوجة الشهداء
فضله
وكان سعيد بن زيد –رضى الله عنه- استأذن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر لأبيه "زيد بن عمر بن نفيل" فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم- "غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم"
ليس هذا فحسب، يقول الرسول –صلى الله عليه وسلم- «يحشر ذاك أمة وحده، بيني وبين عيسى بن مريم»
لأن كل نبي يأتي ومعه أمته، فزيد بن عمرو بن نفيل يحشر لفضله أمه وحده
ويقول الرسول –صلى الله عليه وسلم- «دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين». والدوحة هي الشجرة العظيمة متسعة الظل
الخلاصة أن له فضل عظيم جدًا
"زيد بن عمرو" يلتقى النبي
كما قلنا ان "زيد بن عمرو بن نفيل" مات قبل بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- بخمسة أعوام، أي مات وعمر النبي –صلى الله عليه وسلم- خمسة وثلاثون عامًا، وهي تلك الفترة التى كان الرسول –صلى الله عليه وسلم- يذهب فيها الى غار حراء يتحنث أي يتعبد فيه، ويظل يتعبد في غار حراء الليال ذوات العدد
ولا شك أن "زيد بن عمرو بن نفيل" قد التقي مع النبي –صلى الله عليه وسلم- وفي البخاري قصة بالفعل عن لقاء بين زيد وبين النبي –صلى الله عليه وسلم- ولا شك انه كان بينهما مناقشات كثيرة عن رفض عبادة الأصنام وعن دين ابراهيم الذي ظل "زيد بن عمرو بن نفيل" طوال حياته يبحث عنه، وكذلك كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يبحث عنه أيضًا وهو في خلوته وعبادته في غار حراء
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كان "زيد بن عمرو بن نفيل" من أهم الشخصيات قبل بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- وقصته كانت أيضًا من الأحداث الهامة قبل بعثته –صلى الله عليه وسلم-
ولعل أبرز ما في شخصية "زيد بن عمرو" والتى ينبغي أن نتعلمها منه هو هذا الثبات المذهل على الحق بالرغم من كثرة الباطل، درس كلنا في حاجة الى تعلمه: الموظف الذي كل من حوله يتقاضى الرشوة، الشاب الذي كل أصحابه يشاهدون صور وأفلام اباحية، الفتاة التى كل صاحباتها لهن أصدقاء، من الممكن المسلم المقيم في الغرب يحكي هذه القصة لأبناءه، لأنه هناك يعتبرون الفتاة التى ليس لها "بوي فريند"متخلفة
قصة "زيد بن عمرو بن نفي" تقول لك اثبت على الحق مهما كثر الباطل حولك
وتقول لك أيضًا: كن ايجابيًا، فهذا الدين لا يحتاج من يرتدي الجلباب الأبيض، ويقرأ القرآن، وليس له دخل بأي شيء في المجتمع، هذا الدين محتاج الى الشخصيات الايجابية مثل "زيد بن عمرو بن نفيل"
ستقول: ما الذي كسبه "زيد بن عمرو بن نفيل" في النهاية ؟ أقول لك كسب كثيرًا: كسب انه سيبعث يوم القيامة أمة وحده، أي منزلة ليست لأي أحد من العالمين، كسب الجنة وهذه المنزلة العالية في الجنة، كسب ان الرسول –صلى الله عليه وسلم- استغفر له وترحم عليه، كسب أننا الى الآن ندرس سيرته ونتعلم منها
|