Untitled Document

عدد المشاهدات : 3494

الفصل الثاني والعشرون: زيد بن حارثة- حِب رسول الله

أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة

الجزء الثاني: من ولادة الرسول حتى مبعثه –صلى الله عليه وسلم 

الفصل الثاني والعشرون

زيد بن حارثة

حِب رسول الله

اختطاف زيد بن حارثة

من القصص الهامة التى وقعت قبل البعثة هي قصة "زيد بن حارثة"

والقصة أن "زيد" وهو طفل عمره ثمانية سنوات، خرجت به أمه "سُعدى بنت ثعلبه" لزيارة قبيلتها "بني معن" وفي أثناء الزيارة، أغارت على "بنى معن" قبيلة أخري، وكان من نتائج هذا الهجوم أن أخْتُطِف "زيد"

 

أغارت على "بنى معن" قبيلة أخري

وهكذا أصبح "زيد" هذا الطفل الصغير عبدًا بعد أن كان حرًا، وهكذا كانت الحياة في الجزيرة العربية قبل بعثة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

عادت أمه الى أبيه "حارثة بن شراحيل" وأخبرته فخرج يبحث عن ابنه في كل أنحاء الجزيرة، ويسأل القبائل والقوافل، ويكتب الشعر، لينتشر في الجزيرة، لأن الشعر كان هو وسيلة الاعلان في ذلك الوقت، وأصبحت قضية حياته هي أن يعثر على ابنه المخطوف

 

وخرج أبوه يبحث عنه في الجزيرة

*********************************

زيد بن حارثة في مكة

أما "زيد" فقد عرض للبيع وهو لا يزال طفلًا صغيرًا عمره ثمانية أعوام، في سوق "حُبَاشَة" وهو أحد الأسواق الشهيرة التى كانت تقام كل عام قريبًا من مكة، واشتراه رجل من قريش اسمه "حكيم بن حزام بن خويلد" وهو ابن أخ السيدة "خديجة بنت خويلد" بمبلغ 400 درهم

 

بيع "زيد" عبدًا في أحد الأسواق

جاء "حكيم" بزيد الى مكة، ثم أهداه الى عمته السيدة "خديجة" وظل "زيد" عبدًا في بيت السيدة "خديجة" حتى تزوجت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

 

وجاء "حكيم" بزيد الى مكة

قص "زيد" على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قصته، وتأثر بها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان يعطف علي "زيد" ويحسن معاملته، وكان له بمثابة الأب، وأحب "زيد" الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  حبًا شديدًا، وتعلق به 

وأهدت السيدة "خديجة" زيد الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأصبح مولى للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أن كان مولى لخديجة

*********************************

زيد يختار الرسول على أبيه وأمه

بعد سنوات، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بداية الثلاثينيات من عمره،  وفي أثناء موسم الحج، جاء رجال من قبيلة "زيد" الى مكة ورأوا "زيد" وعرفوه، وتحدثوا اليه، وتأكدوا الفعل أنه "زيد بن حارثة بن شراحيل" ونقلوا اليه لوعة أبيه، فقال لهم:

-        أخبروا أبي أني هنا مع أكرم والد

ثم عادوا وأخبروا "حارثة بن شراحيل" بمكان "زيد" وأنه عبدًا عند رجل من قريش بمكة اسمه "محمد بن عبد الله" ففرح "حارثة" وباع ممتلكاته وجمع الأموال ليفتدي ابنه، ويشتريه من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يتوقع أن يطلب فيه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبلغًا كبيرًا جدًا من المال

ورحل "حارثة بن شراحيل" ومعه أخوه الى مكة، وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند الكعبة فجلسا اليه، وقالا له

((يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني،وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا، فامنن علينا، وأحسن في فدائه((  يعنى لا تطلب مبلغًا مبالغًا فيه لا نقدر عليه

 

جئناك في ولدنا، فامنن علينا

فقال لهما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  : فهل لكما في شئ خير من ذلك ؟  أدعوه لكم، وأخيره، فإن أختاركم فهو لكم، وإن أختارني فما أنا بالذي يرغب عن من اختاره فقالا : قد زدتنا على النصف وأحسنت

جاء "زيد" وعرف أبوه وعمه، ثم جاءت اللحظة الحاسمة، وخير زيد بين أن يظل عبدًا عند الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أن يعود الي أبيه وأمه وعشيرته وترد اليه حريته، فكانت المفاجأة التى لم يتوقعها أحد، أن يختار "زيد" ألا يترك الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى لو ظل عبدًا، وحتى لو حرم من أبيه وأمه

يقول زيد:

-        بل أبقي معك، أنت لى بمنزلة الأب والعم، ولا أختار عليك أحدًا أبدًا

فتعجب أبوه وقال: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟!

فقال زيد: نعم لا أختار عليه أحدًا أبدًا

الرسول يتبنى زيد

وراي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الموقف، فرق لوالد "زيد" وأراد أن يطمئنه، فأخذ "زيد" من يده، وذهب به الى حجر اسماعيل، حيث قريش مجتمعة، ونادي: يا معشر قريش، اشهدوا من اليوم زيد ابنى يرثني وأرثه

 

أخذ الرسول زيد" الى حجر اسماعيل

تقول الرواية "فطابت نفس أبيه" لماذا  ؟ لأن مشكلة أبيه ليس أن يكون زيد معه، لأنه كان قد كبر وأصبح شابًا وبلغ السن الذي ينفصل فيه عن أبيه وتكون له أسرته وحياته، ولكن مشكلة أبيه أن يعيش عبدًا، فلما وجد أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أعتقه، بل وتبناه وأصبح ابنا له يرثه ويرثه، اطمئن وعاد الى قبيلته مسرورا

انصرف أبو "زيد" وعمه، وقد اطمئنا على زيد، وأصبح "زيد" منذ ذلك الوقت بين قريش حرًا وليس عبدًا، وأصبح اسمه  "زيد بن محمد" وليس "زيد بن حارثة"

وكان عمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك الوقت اثنين وثلاثين سنة

*********************************

قصة زيد من علامات النبوة

الحقيقة هذه القصة تستغرقني منذ سنوات، وكنت دائمًا أسأل نفسي: كيف كان يتعامل الرسول العظيم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع "زيد بن حارثة" حتى يحبه "زيد" كل هذا الحب ؟

كيف كنت تعامله يا رسول الله حتى يفضل أن يظل غريبًا وعبدًا في بيتك، على أن يكون حرًا في عشيرته وبيت أبيه وأمه

ولاحظ أن هذا الموقف كان قبل بعثة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلو كان بعد البعثة لقلنا أنه من الطبيعي أن يفضل أن يكون مع الرسول، ولكن أن يحدث هذا الموقف قبل البعثة، فهذا يدل على أن اختيار "زيد" كان حبًا بل انبهارًا بشخص الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

لذلك كان اختيار زيد للرسول علامة من علامات النبوة

*********************************

حب الرسول لزيد بن حارثة

وأحب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "زيد بن حارثة" حبًا شديدًا، لدرجة أن الصحابة أطلقوا عليه "حِب رسول الله" يعنى حبيب الرسول، وعندما تزوج زيد وأنجب "أسامة" أحب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أسامة بن زيد" أيضًا، وأطلق عليه الصحابة "الحب بن الحب"

ويقول له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "يا زيد أنتَ مولايَ ومني وإليّ وأحَبّ القَوْم إليّ"

تحكي لنا السيدة عائشة أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في بيتها، وكان قد أرسل "زيد بن حارثة" في سرية، وعاد"زيد" وطرق الباب على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلم الرسول أنه "زيد" فقام مسرعًا يجر ثوبه، يعنى من شدة اشتياقه لزيد لم ينتظر حتى يكمل ارتداء ملابسه، ثم فتح له الباب واحتضنه وقبله

وبعد استشهاد "زيد بن حارثة" في غزوة "مؤته" رأي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابنة لزيد ابن حارثة، فلما رأت الفتاة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكت في وجهه، فبكي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى انتحب، فقال له الصحابة: ما هذا يارسول الله؟ فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هذا شوق الحبيب إلى الحبيب 

وحدث في أيام خلافة "عمر بن الخطاب" أنه كان يقسم العطايا، فكان دائمًا يعطي لإسامة بن زيد أكثر من ابنه "عبد الله بن عمر" فسأله عبد الله: يا أمير المؤمنين تعطي لأسامة أكثر مما تعطيني ! فقال له عمر: لأنه كان احب لرسول الله منك، وأبوه كان أحب لرسول الله من أبيك" أي أن الرسول كان يحب أسامة أكثر من "عبد الله بن عمر"، وكان يحب أبوه "زيد بن حارثة" أكثر من "عمر بن الخطاب"

*********************************

اعداد الرسول لزيد بن حارثة

وبالرغم من أن "زيد بن حارثة" كان مولى لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الا أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجد أنه يمتلك مواهب قيادية، فبدء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينمي هذه الموهبة عند زيد، ويعمل دائمًا على أن يحمله مسئوليات كبيرة

وهكذا نشأ "زيد بن حارثة" شخصية قيادية وقادرة على تحمل المسئولية، ونحن اذا أردنا أن نحقق نهضة، فلابد أن يكون هناك جيل صلب قادر على تحمل المسئولية، ولو كان هناك جيل مدلل فليس هذا الجيل الذي ستتحقق النهضة على يديه

وبعد الهجرة جعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "زيد بن حارثة" أميرًا على تسعة غزوات ارسلها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

تقول السيدة عائشة: "ما بعث رسول الله -صَلَّى الله عليه وسلم- زيدَ بن حارثة في جيش قطّ إلا أمّرَهُ عليهم ولو بقي بعده استخلفه"

 

ما بعث الرسول زيدَ بن حارثة في جيش قطّ إلا أمّرَهُ عليهم

أي أن أي جيش لا يكون فيه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه "زيد بن حارثة" لابد أن يجعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "زيد بن حارثة" هو أمير هذا الجيش

ولو لم يمت "زيد بن حارثة" قبل وفاة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لجعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "زيد بن حارثة" هو خليفته

والذي يقول هذا الكلام هو عائشة –رضى الله عنها- وهي بنت أبو بكر، خليفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا بالطبع وجهة نظرها، ولكن هذا يدل على مدي اقتناع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمواهب "زيد بن حارثة" القيادية

*********************************

سيرة الصحابي الجليل "زيد بن حارثة" سيرة غنية جدًا وعظيمة جدًا، ولكن نكتفي من هذه السيرة بهذا القدر الضئيل، لأن هدفنا ونحن نتحدث عن "أسرار السيرة الشريفة" أن نأخذ نبذة عن هذا الغلام الذي عاش في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورباه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

  

مقام "زيد بن حارثة"

الفصل القادم–ان شاء الله- سنتحدث عن غلام آخر عظيم، انتقل الي بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في فترة ما قبل نزول الوحي على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو "على بن أبي طالب"