أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجزء الثاني: من ولادة الرسول حتى مبعثه –صلى الله عليه وسلم
الفصل السادس والعشرون
المرحلة قبل نزول الوحي
((مرحلة الإعداد الروحي))
**********
انتهينا حين وصل سن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى الثامنة والثلاثون، وبدأت آخر مرحلة من مراحل اعداد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأعظم مهمة في التاريخ كله، وهي مهمة انقاذ البشرية، وهذه المرحلة هي مرحلة الاعداد الروحي، وزيادة الطاقة الروحية للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في هذه الفترة حُبِّبَ الخلاء للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ومعنى "حُبِّبَ الخلاء" للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصبح يحب جدًا أن يكون بمفرده، وأصبح يحب جدًا أن يذهب الى مكان بعيد عن الناس ويظل في هذا المكان بمفرده
ولا يظل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمفرده ساعة ولا ساعتين، بل يظل بمفرده بعيدًا عن الناس عدة أيام، فكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذهب الى غار حراء، ويظل فيه عدة أيام
حُبِّبَ الخلاء للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
**********
وصف غار "حراء"
الجبل الذي فيه غار حراء، وهو الجبل الذي أطلق عليه بعد ذلك "جبل النور" يبعد عن مكة حوالى خمسة كيلو مترات، وارتفاعه حوالى ستمائة وثلاثين مترًا، وهو جبل شديد الانحدار والوعورة، وغار حراء في قمة الجبل
جبل النور وغار حراء في قمة الجبل
والوصول الي غار حراء، يحتاج الى حوالى ساعة ونصف الساعة، بالرغم من أن الطريق تم تعبيده الآن نسبيًا، وفيه بعض الاستراحات البدائية
غار حراء من الخارج
وغار حراء من الداخل يتسع لحوالى تسعة أشخاص جلوسًا، وارتفاعه ارتفاع قامة الانسان المتوسطة
هذا هو وصف غار حراء الذي كان يقصده الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل البعثة بعامين فينعزل عن كل الناس، ويتعبد فيه
أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة قالت "أَوَّلُ مَابُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَيَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثم حبب إليه الخلاء، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ (أي يتعبد) اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ, قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا"
والمقصود باللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، أي الأيام الكثيرة، فكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأخذ طعامه وشرابه ويتجه الى جبل النور، ويصعد الى غار حراء هذه المسافة الكبيرة، ويظل في غار حراء عدة أيام، ثم يعود الى بيته، ويتزود بالطعام والشراب، ثم يعود الى غار حراء مرة أخري وهكذا
عبادة الرسول في غار حراء
وكانت عبادة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غار حراء هي عبادة التفكر، لأنه لم تكن هناك صلاة ولا قراءة قرآن، فكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتفكر في خلق السماوات والأرض والكون، وكان المشهد من غار حراء يساعد على هذا التفكر، لأن الغار يطل على جبال شاهقة ووديان واسعة، وفضاء كبير، وأفق واسع
المشهد من غار حراء
والحقيقة أن التفكر من العبادات التى نغفل عنها، ولا يمارسها الى القليل جدًا، يقول أبو الدرداء "تفكر ساعة خير من قيام ليلة" ويقول عمر بن عبد العزيز "التأمل في نعم الله أفضل عبادة"
*********************************
أين السيدة خديجة من كل ذلك؟
كانت السيدة خديجة تأتي وتظل مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بضعة أيام، يعنى مثلًا لو ظل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غار حراء عشرة أيام، تأتي السيدة خديجة وتظل معه يومين أو ثلاثة، بالرغم من أن عمرها في ذلك الوقت خمسة وخمسون سنة
لماذا ؟
أولًا: من شدة حبها للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورغبتها في أن تظل معه والى جواره
وثانيًا:حتى لا تكون هناك فجوة بينها وبين زوجها
وهذه نقطة هامة جدًا للزوجات: اياك أن يكون زوجك في وادي وانتِ في وادي، فيختفي التفاهم، وتعيشون أغراب تحت سقف واحد، شاركي زوجك في اهتماماته، طالما أنه أمر غير محرم، فما المانع أن تشاركيه في اهتماماته وهواياته
********************************
تمهيد للرسول قبل نزول الوحي
قبل نزول الوحي بستة أشهر، كان هناك تمهيد للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنزول الوحي
لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيقابل كائن آخر ليس من الأرض، وهو جبريل، وهو أعظم كائن في السماء، ومقابلة جبريل واستقبال الوحي من السماء ليس أمرًا هينًا، وهو أمر يحتاج الى تمهيد
ويذكرني ذلك بقصة "سهيلة بنت ملحان" مات ابن لها وزوجها مسافر، فلما حضر زوجها لم تشأ أن تصدمه بالخبر فور وصوله، ولكن أعدت لها طعامًا، ثم قالت له أن جيرانًا لهم أعطاهم آخر وديعة، فلما أراد أن يسترد وديعته منهم حزنوا حزنًا شديدًا، فتعجب زوجها "أبو طلحة" من ذلك، فقالت له "فان الله قد أخذ وديعته" ففهم وقال "انا لله وانا اليه راجعون"
من التمهيد للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرؤيا الصادقة
فكان من التمهيد للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرؤيا الصادقة، روي البخاري عَنْ عَائِشَةَ ـ رضى الله عنها ـ أَنَّهَا قَالَتْ "أَوَّلُ مَابُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَيَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ"
يعنى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يري مثلًا أن فلان يزورهم في البيت، وكان معه كذا، ويقولون كذا، ويحدث كذا، فتتحقق الرؤيا كما رآها بالضبط، فشعر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن هناك شيء غريب وغير عادي
ثم كان التمهيد الثاني، والواضح جدًا هو تسليم الحجر والشجر على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمشي في مكة فيسمع صوتًا يصدر من الحجر والشجر يقول "السلام عليك يا رسول الله" فيلتف فلا يجد شيئا
كان الحجر والشجر يسلم على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وأحيانًا يري الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحجر ويسمعه وهو يقول "السلام عليك يا رسول الله" روي مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن"
********************************
نعود مرة أخري الى غار حراء، الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يزال يذهب الى غار حراء، ويظل هناك عدة أيام، حتى بلغ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعون عامًا
وفي شهر رمضان، وفي ليلة من ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان، يبدأ نزول الوحي على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا سيكون حديثنا في الجزء الثالث من "موسوعة السيرة الشريفة"
********************************
لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا
|