الجُزْءُ الثَالِث: مِنْ نُزُول الوَحْي حَتَى الهِجْرَة (مَرْحَلَة الدَعْوَة المَكِيَة)
الفصل الأربعون
*********************************
تعذيب المسلمين
*********************************
*********************************
رأينا أن قريش بدأت فور أن جهر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالدعوة في العداء للإسلام والعداء للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وكانت قريش تعلم أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جوار عمه "أبو طالب" وهو سيد بنى هاشم، أي في حماية "بنى عبد مناف" ولذلك كان ايذاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له حدود لا يستطيعون تجاوزها
كذلك كان ايذاء سادة قريش ممن أسلموا ايذاءًا له حدود لا يمكن لقريش تجاوزها، ومع ذلك تعرض بعض سادة قريش للإيذاء الشديد، مثل "أبو بكر" لأنه كان أقرب اصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اليه، وهو يعتبر وزيره وذراعه اليمن، وأيضًا لأن أبو بكر من "بنى تيم" وهي تعتبر من البطون الضعيفة في قريش
كذلك تعرض للإيذاء الشديد "عثمان بن عفان" بالرغم من أنه من سادة "بنى أمية" وهي من بطون قريش القوية، لكنه تعرض لإيذاء شديد لأنه قد تزوج من ابنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أما ضعفاء المسلمين والعبيد الذين أسلموا، فقد تعرضوا لتعذيب بشع حتى يرتدوا عن اسلامهم
*********************************
آل ياسر
فكان ممن عذب عذابَا شديدًا ياسر وزوجته سمية وابنهما عمار، وكان ياسر رجلًا من اليمن وجاء الى مكة هو وأخان له يبحثان عن أخ لهم رابع، فعاد الأخان الى اليمن، وبقي ياسر في مكة، وحالف رجلًا من بنى مخزوم، يعنى أقام في رعاية وحماية هذا الرجل من بنى مخزوم كما هي عادة المجتمعات القبيلية، وتزوج "ياسر" أمة من بنى مخزوم، وهي "سمية بنت خياط" وأنجبا "عمار"
فلما جاء الاسلام أسلموا جميعًا، فغضب عليهم مواليهم من بنى مخزوم غضبًا شديدًا، وصبوا عليهم العذاب صبًا، لأنهم ليس لديهم عشيرة تحميهم
وكان يمر عليهم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقول لهم "صبرًا آل ياسر فان موعدكم الجنة"
كان الرسول يمر عليهم ويقول "صبرًا آل ياسر فان موعدكم الجنة"
وجاء "عمرو بن هشام- أبو جهل" وأخذ يعذبهم بيده، ثم قال لسمية: ما آمنت بمحمد الا أنك عشقته لجماله، فردت عليه وأغلظت له القول، فطعنها بالحربة بين قدميها فماتت، وكانت أول شهيدة في الاسلام
ما آمنت بمحمد الا أنك عشقته لجماله
ولم يرحم "بنو مخزوم" ياسر وابنه بعد قتل سمية بهذه الطريقة البشعة أمام أعينهما، بل استمروا في تعذيبهم دهرًا طويلًا، حتى أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مر عليهما وهما يعذبان، فقال له ياسر: يا رسول الله الدهر هكذا ؟ فقال له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اصبر، ثم قال: "اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت" ثم لم يلبث أن مات ياسر تحت العذاب
واستمر تعذيب عمار حتى بعد وفاة أمه وأبيه أمام عينيه، حتى دخل "عمار" يومًا على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يبكي، فقال له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ما وراءك ؟ قال عمار وهو يبكي: شر يا رسول اللّه، ما تُرِكت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، فأخذ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسح الدموع عن عين عمار بيده الشريفة وهو يقول له: فان عادوا فعد، ونزل في ذلك قوله تعالى:
((مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ))
قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمار: فان عادوا فعد
خباب بن الأرت
كان "خباب بن الأرت" عبدًا عند امرأة اسمها "أم أنمار الخزاعية" وكان يعمل حدادًا، ودخل في الاسلام مبكرًا، فلما علمته سيدته عذبته عذابًا شديدًا، حتى أنها أخذت حديدة محماة ووضعتها على رأسها، وكان "خباب" يشتكي الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدعا له الرسـول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال "اللهم انصر خبابًا" واستجاب الله تعالى لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانت سيدته "أم أنمار الخزاعية" تشعر بآلام في راسها يجعلها تصرخ، فاشار عليها الأطباء بأن تكتوي، فكانت تجعل خباب يكوي راسها كما كانت تفعل به
عذبت "أم أنمار" خباب بن الأرت عذابًا شديدًا
بلال بن رباح
وهناك بلال، والذي تعرض لأبشع أنواع التعذيب لأنه كان عبدًا، ولم يكن معه عشيرة تحميه، فكانوا يخرجون به الى صحراء مكة، ويطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر ضخم ويضعونه على صدره، ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، وهو ثابت ثبوتًا مذهلًا ولا يقول لهم الا كلمة واحدة تزيدهم غيظًا، وهي كلمته الخالدة "أحد، أحد"
كانوا يأتون بحجر ضخم ويضعونه على صدر بلال
وكان اذا غربت الشمس، جعلوا في عنقه حبلًا، وجعلوا صبيانهم يطوفون به في شوارع مكة، وهو لا يكف عن نشيده المقدس "أحد أحد"
ثبت بلال ثبوتًا مذهلًا
وأخيرًا ملوا من كثرة تعذيبه بلا فائدة، حتى رضوا أخيرًا أن يخلوا سبيله في سبيل أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرائهم، ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها، وأخذ يردد مكانها نشيده الخالد "أحد أحد"
رفض بلال أن يقول لهم كلمة واحدة تحفظ لهم كبرائهم
وكانوا يقولون له: قل كما نقول، فيقول بلال لهم في سـخرية كاوية: إن لساني لا يحسنه
وكان ضعفاء المسلمين يأخذون بالرخصة عندما نزل قول الله تعالى ((مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ)) الا بلال رفض أن يأخذ بهذه الرخصة
رفض بلال أن يأخذ بالرخصة
*********************************
خالد بن سعيد بن العاص
وغير هؤلاء الكثير جدًا من ضعفاء المسلمين مثل "خالد بن سعيد بن العاص" والذي ما ان علمه ابوه باسلامه حتى أخذ يضربه بعصا في يده على رأسه حتى كسرها، ثم كان يمنع عنه الطعام والماء أيامًا طويلة
وغير هؤلاء الكثير جدًا من ضعفاء المسلمين مثل "خالد بن سعيد بن العاص"
لبيبة
وهناك "لبيبة" وكانت جارية في بنى عدي، والتى كان يضربها "عمر بن الخطاب" بالسياط حتى يتعب هو من الضرب، ثم يقول لها: والله ما تركتُكِ إلا كلالاً، يعنى ما تركتك الا لأني تعبت من كثرة الضرب، فترد عليه بثبات مذهــل وتقول: انظر ما فعل الله بك
زنيرة
وهناك "زنيرة" الرومية، كانت جارية، وعذبت حتى فقدت بصرها، فقالت قريش "ما أذهب بصرها الا اللات والعزي" فقالت "كذبوا ما تضر اللات والعزي وما تنفعان" فرد الله تعالى اليها بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد
*********************************
وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتألم ألمًا شديدًا بسبب ما يعاني منه هؤلاء المستضعفون، ولكنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يملك شيئًا لهم غير النصيحة لهم، وغير الدعاء لهم، فكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمر على هؤلاء المستضعفين من المسلمين وهم يعذبون ويصبرهم ويدعو لهم
كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمر على هؤلاء المستضعفين فيصبرهم ويدعو لهم
*********************************
وفي يوم جاء بعض المستضعفين من المسلمين الذين كانوا يعذبون الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو جالس في ظل الكعبة، وقالوا له: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟ فرد عليهم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
- قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ولكنكم تستعجلون
*********************************
أبو بكر يشتري العبيد الذين يعذبون ويعتقهم
وكان "أبو بكر" تاجرًا غنيًا، فبدأ "أبو بكر" يشتري العبيد الذين يعذبون ويعتقهم، فاشتري سبعة: رجلان، وخمسة نساء، وقيل اشتري عشرون
اشتري "أبو بكر" عشرين من العبيد الذين يعذبون
وكانت قريش تعلم رغبة أبو بكر الشديدة في شراء هؤلاء العبيد والمستضعفين لينقذهم من العذاب، فكانت تغالى في المبلغ الذي تطلبه
من ذلك مثلًا أن أبو بكر مر ببلال وهو يعذب فقال لسيده "أمية بن خلف" ألا تتقي الله في هذا المسكين ؟ حتى متى ؟ فقال له أمية بنت خلف: أنت الذي أفسدته، فانقذه مما تري (لأن بلاب دخل في الإسلام على يد أبي بكر، فكأنه يقول له أنت السبب فيما هو فيه، فانقذه مما فيه) فاشتراه أبو بكر بسبعة أوقيات (والأوقية أربعين درهم) فقال أمية لأبي بكر الصديق: فواللات والعزى، لو أبيت إلا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعته بها، فقال أبو بكر: والله لو أبيت أنت إلا مائة أوقية لدفعتها.
قال أمية لأبي بكر: فواللات والعزى، لو أبيت إلا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعته بها
*********************************
وكان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر الصديق وبسخر منه لأنه يبذل كل هذا المال لهؤلاء المستضعفين الذين لا يستفيد منهم شيئًا
وقال له أبوه أبو قُحَافةَ يومًا: يا بُنيَّ، أراك تعتق رقاباً ضِعافاً، فلو أنك إذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أعْتَقْتَ رجالاً جَلَدةً يمنعونك ويقومون دونك. فقال أبو بكر: يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل
وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله ((فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)) حتى قال تعالى ((وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى))
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى: يعنى لا يفعل ما يفعل ليرد جميل أحد، ولا يفعل هذا في انتظار مقابل
*********************************
هكذا استمرت قريش في ايذاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وايذاء المسلمين، وتعذيب ضعفائهم، وواجه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك بدعوة المسلمين الى الصبر، وبالعمل على شراء من يستطيعون شراءه من العبيد
واستمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دعوته، واستمر الاسلام في الانتشار، ماذا فعلت قريش بعد ذلك، وكيف سارت الأمور
هذا ما سنتحدث عنه في الفصل القادم
*********************************
لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا
*********************************
|