Untitled Document

عدد المشاهدات : 3309

الفصل التاسع والأربعون: المفاوضات

أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة  

الجُزْءُ الثَالِث: مِنْ نُزُول الوَحْي حَتَى الهِجْرَة - مَرْحَلَة الدَعْوَة المَكِيَة

الفصل التاسع والأربعون

*********************************

المفاوضات

*********************************

 

*********************************

قريش تتفاوض مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأول مرة

 

تحدثنا عن اسلام فارس قريش العظيم "حمزة بن عبد المطلب" وبعد اسلام "حمزة" بثلاثة أيام فقط كان اسلام عظيم آخر وهو "عمر بن الخطاب" وباسلام "حمزة" و"عمر" بدأت موازين القوي تميل الى صالح المسلمين

كانت موازين القوي لا تزال في صالح قريش، ولكنها مالت -بعض الشيء- باسلام "حمزة" و"عمر" الى صالح المسلمين

وبعد اسلام "حمزة" و"عمر" بدأ كثير ممن كان يخفي اسلامه من المسلمين يعلن اسلامه، وأصبح المسلمون يطوفون بالبيت، ويصلون عند البيت، ويجلسون حلقات حول البيت، وأصبحوا يردون على من يسخرون منهم

رصدت قريش كل هذا، ورأت أن تتفاوض مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن تحاول مساومة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

وكانت قريش قد فاوضت "أبو طالب" عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتحدثنا عن ذلك في فصل سابق بعنوان "أبو طالب النصير القوي" ولكن مفاوضات قريش مع "أبو طالب" كانت بهدف أن يرفع حمايته عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى تقتل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

ولكن مفاوضات قريش هذه المرة كانت مفاوضات مباشرة مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو هي مساومات بأن يعرضوا عليه أمور حتى يقبل التنازل عن الدعوة

        *********************************

"عتبة بن ربيعة" يساوم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 

أول هذه المفاوضات كانت بواسطة "عتبة بن ربيعة" وكان من سادة قريش:

كان "عتبة بن ربيعة" جالسا عند الكعبة مع بعض سادة قريش، وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  جالسًا وحده في الكعبة أيضًا، فقال عتبة لسادة قريش:

-        يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا‏ ؟

 

يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها

فوافقه في ذلك سادة قريش، وقالوا له‏:‏ بلى يا أبا الوليد، قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏

-        يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من البسِّطَةِ  في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها‏.‏

فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏:‏

-        ‏قل يا أبا الوليد أسمع‏.‏

 قال عتبة‏:‏

-        يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا

 

إن كنت مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا

قال له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏:‏ ‏‏

-        أقد فرغت يا أبا الوليد‏؟‏‏

قال‏:‏

-        نعم

قال‏:‏ ‏‏

-        فاسمع منى‏

قال‏:‏

-        أفعل

فقال‏:‏ ‏

-        بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏1‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ثم مضى رسول الله فيها، يقرؤها عليه، وعتبة ينصت له وقد ألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، حتى انتهي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى موضع السجدة منها فسجد ثم قال‏:‏ ‏‏

-            قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك‏

 

قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك‏

 فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض‏:‏ نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به‏، فلما جلس إليهم قالوا‏:‏ ما وراءك يا أبا الوليد‏؟‏ قال‏:‏

-        ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي: خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به

قالوا‏:‏ سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال‏:‏ هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم‏.‏

        *********************************

"قريش" تقدم اقتراحات عجيبة ونزول سورة "الكافرون"

في جولة ثانية من المفاوضات، توجه للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعض من سادة قريش، واقترحوا عليه، أن يعبدوا الله تعالى، في سبيل أن يعبد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آلهتهم، قالوا له: يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت فى الأمر، فإن كان الذى تعبد خيرا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه

وقالوا  له مرة: نسجد لآلهك في مقابل أن تسجد لآلهتنا

وقالوا له مرة، نعبد الاهك سنة، وأنت تعبد آلهتنا سنة

يعنى هم يريدون كما نقول نحن "نقسم البلد نصفين" أو "نلتقي في منتصف الطريف"

 

يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد

فنزلت سورة الكافرون، ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ))

هكذا نزلت سورة الكافرون بالجزم والتوكيد والتكرار، حتى تقطع كل طريق، وتغلق كل باب للمساومة في أمور العقيدة، والسورة تبدأ بهذا النداء (يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) يعنى هذه هي حقيقتكم، أنكم كافرون ولستم على دين، ثم يقول تعالى (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) تأكيد وجزم وتكرار، حتى يغلق هذا الباب نهائيًا، ثم يقول تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) يعنى أنا هنا وأنتم هناك، ليس بيننا طريق ولا جسر ولا معبر

 

*********************************

"قريش" تطلب طرد فقراء المسلمين

من مفاوضات قريش أيضًا مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنهم طلبوا من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا يجلس مع أتباعه من العبيد والفقراء، لأن سادة قريش يأنفون أن يكونوا في مجلس واحد مع هؤلاء، وقالوا له: لو طردتهم لعلنا اتبعناك

طلب سادة قريش من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك، وتحدث اليه في ذلك الأمر أيضًا عمه "أبو طالب" حتى "عمر بن الخطاب" أشار على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يوافق، وقال: يارسول الله لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون

 

لو طردتهم لعلنا اتبعناك

فأنزل الله تعالى قوله في سورة الأنعام: } وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ{

ثم قال تعالى ((وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ)) فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الحمد لله الذي جعل في امتى من أمرني أن أبدأهم بالسلام"

 

 *********************************

الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقدم أي تنازلات

وقد قلنا من قبل أنه في "علم المفاوضات" اذا كنت الطرف الأضعف، فعليك أن تقدم بعض التنازلات، ولكن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقدم أي نوع من التنازل، لأنه وان كان يبدو أنه الطرف الضعف، ولكنه ليس كذلك، بل على العكس قريش هي الطرف الأضعف

ولذلك يقول تعالى "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" يعنى هم يتمنون أن تلين وتقدم التنازلات، وهم مستعدون لتقديم التنازلات في مقابل ذلك

والانسان اذا أراد أن يلين آلة أو شيء، يضع عليها زيت، ومن هنا جائت كلمة "تُدْهِنُ" من اللين

 

       *********************************

"قريش" عند نقطة الصفر

هكذا فشلت كل مفاوضات قريش مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووجدت قريش أنها لا تزال عند نقطة الصفر واقفة في مكانها لا تتحرك، بينما الاسلام يتقدم ينتشر ويكتسب مساحة جديدة كل يوم

ماذا فعلت قريش بعد ذلك في مواجهة هذا الصعود للإسلام

هذا ما سنتحدث عنه في الفصل القادم

       *********************************

لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا

       *********************************