أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجُزْءُ الثَالِث: مِنْ نُزُول الوَحْي حَتَى الهِجْرَة - مَرْحَلَة الدَعْوَة المَكِيَة
الفصل الثالث والخمسون
*********************************
اشتداد ايذاء قريش للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
*********************************
*********************************
جرأة قريش على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد وفاة أبو طالب
بعد وفاة "أبو طالب" تجرأت قريش على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما لم تتجرأ من قبل
بالرغم من أن وفاة "أبو طالب" لم تكن تعنى فقدان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحماية بنى هاشم
فقد ظل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرغم من وفاة "أبو طالب" في حماية بقية أعمامه وبنو عمومته وكل بنى هاشم وبنى عبد مناف
ولكن –مع ذلك- تأثرت كثيرًا الجبهة التى كانت تقوم بحماية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوفاة "أبو طالب" عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن أبو طالب، كان شخصية شديدة القوة والصلابة
وقد رأينا له موقفين في منتهي القوة والصلابة: عندما تجاوز الشاعر بن الزبعري، وعندما فكرت قريش في قتل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب
************
من أمثلة جرأة قريش على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسير يومًا في طرقات مكة، فاعترضه سفيه من سفهاء قريش، وقذف في وجهه التراب والرمال، فعاد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى بيته معفرًا مغبرًا، وقامت اليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بناته يغسلون هذه الرمال من على شعره ووجهه وهن يبكين، فقال لهن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا تبكون فان الله مانع أباكم
**************
عقبة بن ابي معيط يوشك على قتل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ووقف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومًا يصلى عند الكعبة فأتي اليه "عقبة بن ابي معيط" فلف عبائته حول رقبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخنقه بها، حتى سقط الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ركبته، وكاد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يفقد حياته فعلًا ولم ينقذه الا أبو بكر الذي جاء ودفع عقبة وهو يقول "أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم"
**************
مثالل آخر على الأيذاء الشديد للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلى يومًا عند الكعبة، وكان هذا يغيظ قريش ويستفزها، وكان في ناحية من المكان سلا جزور، يعنى أحشاء جمل تم ذبحه، فقال بعضهم لبعض: أيكم يأخذ سلى هذا الجزور فيقذفه على ظهر محمد اذا سجد ؟ فقال "عقبة بن أبي معيط" أنا !
وسجد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخذ "عقبة بن أبي معيط" أحشاء الجمل، والقاها على ظهر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وظل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ساجدًا لا يستطيع أن يرفع رأسه، وسادة قريش يضحكون في مجلسهم ويميل بعضهم على بعض من شدة الضحك
والذي يروي لنا هذه القصة هو عبد الله بن مسعود، يقول وأنا قائم، يعنى لا يستطيع حتى أن يقترب من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويدفع عنه هذه الأشياء، يقول حتى انطلق انسان وأخبر فاطمة فجاءت فطرحته عنه وهي تبكي، ثم رفع الرسول –صلى الله عليه وسلم- رأسه
يقول "عبد الله بن مسعود" وأنا قائم
**************
"عقبة بن أبي معيط" وصديق السوء "أبو جهل"
هل تتخيل أن "عقبة بن أبي معيط" هذا كان على وشك الاسلام، وكان سيصبح من الصحابة، والذي منعه من الاسلام هو صداقته لأبي جهل
والقصة أن أبو جهل سافر مرة وعاد ليجد "عقبة بن أبي معيط" قد تأثر بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكاد أن يسلم، فذهب اليه أبو جهل وقال له: وجهي من وجهك حرام، وكلامي من كلامك حرام، حتى تذهب فتبصق على وجه محمد !
فذهب عقبة بن أبي معيط وبصق على وجه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وينزل قول الله تعالى: "ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا فقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني"
هذه القصة دائمًا نضرب بها المثل في خطورة أصدقاء السوء، ان "عقبة بن أبي معيط" كاد ان يدخل في الاسلام، بل كاد أن يكون من الصحابة السابقين للإسلام، لولا صديق السوء، وهو أبو جهل
**************
قريش تعترض الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعتدي على "أبي بكر"
وخرج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومًا وطاف بالكعبة، فقان اليه رجال من قريش وأحاطوا به يدفعونه وتجاذبونه من ملابسه، وهم يقولون: أَنْتَ الَّذِي جَعَلْتَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ؟ أنت الذي تقول كذا ؟ وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: نعم، فأتي أبو بكر ليدفع المشركين عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فضربه المشركون، ودفعونه فسقط على الأرض، وخلعوا نعالهم وأخذوا يضربونه على وجهه –رضى الله عنه- حتى انتفخ وجهه، وحتى أغشى عليه، وحمل الى بيته وهو مغشى عليه، ولم يفق الا في الليل، وكان أول ما فعله بعد أن أفاق أن سأل: ماذا فعلوا برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا له: هو بخير، فقال: والله لا آكل ولا أشرب حتى تحملاني فأنظر اليه بعينى، فلما ذهبوا به الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونظر في وجهه واطمئن عليه، قال: الحمد لله، وقام اليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واحتضنه وهو حزين، فقال له أبو بكر: يا رسول الله ليس بي شيء إلا ما أصابني في وجهي!
**************
صيانة الله تعالى لنبيه من الإهانة الشديدة
وكان الله –سبحانه وتعالى- يصون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أذي قريش في بعض المواقف، فكان الله تعالى يصون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المواقف التى يمكن أن يتعرض فيها لإهانة شديدة، أو المواقف التى يمكن أن تفقده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حياته
من ذلك مثلًا ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن أبو جهل قال لقريش: أتتركون محمدًا يعفر وجهه بين أظهركم ؟ واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، فأتي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلى وسجد وقام أبو جهل ليطأ رقبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ففوجئت قريش أن أبو جهل يتراجع وهو يتقي بيديه، فقيل له مالك ؟ فقال وهو يرتجف: إن بيني وبينه لخندقا من نار، يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا
أتتركون محمدًا يعفر وجهه بين أظهركم ؟
**************
صيانه الله تعالى لنبيه من القتل
ويصون الله تعالى أيضًا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المواقف التى يمكن أن تفقده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حياته
روي عن ابن عباس أن أبا جهل قال:
- يا معشر قريش إن محمدًا قد أبى إلا ما ترون من عيب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدًا بحجر، فإذا سجد فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم
فلما أصبح أبو جهل أخذ الحجر وجلس ينتظر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم وقام يصلي، وجلست قريش ينظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما اقترب من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تراجع مرعوبًا ممتقع الوجه وهو يرتجف من شدة الخوف، حتى قذف الحجر من يديه، فقامت اليه قريش وهو يقولون: ما لك يا أبا الحكم ؟ فقال لهم:
- قمت اليه لأفعل ما قلت لكم، فلما دنوت منه عرض اليَّ فحل من الإبل، والله ما رأيت مثله، فهم أن يأكلني
لما دنوت منه عرض اليَّ فحل من الإبل
**************
الإبتلاء هو ضريبة الحق
هذه بعض النماذج للإيذاء البدني والنفسي الذي كان يتعرض له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتعرض للإيذاء يوميًا، وبصفة مستمرة: من جيرانه، في الطريق، في السوق، عند الكعبة، في كل مكان وفي كل وقت، وقد قلنا أن هذا الإيذاء زاد جدًا بعد وفاة "أبو طالب" عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب
هذا الإيذاء الشديد الذي تعرض له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصحابته الكرام، حتى نعرف أن ضريبة الحق باهظة، وطالما أنك على الحق فلابد أن تبتلي
ولذلك يقول تعالى في سورة العصر ((والعصر * ان الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))
فجاء الأمر بالصبر بعد أن أمر بالثبات على الحق، وطالما أنك على الحق، فلابد أن تبتلي، واذا ابتليت فعليك بالصبر
**************
|