Untitled Document

عدد المشاهدات : 5537

الفصل الثالث والسبعون: مشاكل المدينة

أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة  

الجُزْءُ السادس: من الهجرة حتى غزوة بدر الكبري

الفصل الثالث والسبعون 

*********************************

مشاكل المدينة

*********************************

 

 

*********************************

تحدثنا في الفصل السابق عن وصول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى المدينة، ونزوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في منزل رجل من فقراء أهل المدينة، اسمه "أبو أيوب الأنصاري" حتى تم بناء منزل له

لماذا لم يجهز الأنصار بيت للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يصل الى المدينة ؟ لأن الأنصار وجدوا أنه ليس من الكرم، وليس من الأدب مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا يكون نزوله في بيت واحد منهم، وذلك مثلما يأتي أحد أقاربك الى بلد غريب أنت فيه، ويقيم في فندق، فتقول له عيب أن تقيم في الفندق، تعال ولتكن اقامتك عندي 

هكذا تمت هجرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والكثير يعتقد أن بهجرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انتهت المرحلة الصعبة في تاريخ الدعوة، وهي مرحلة الدعوة المكية، والتى استمرت 13 سنة، مليئة بالإضطهاد الشديد جدًا، والتعذيب، والتضييق، والحرب الإعلامية

ولكن –كما سنري- أن مرحلة الدعوة المدنية، ربما أكثر صعوبة من المرحلة المكية

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

ما الذي واجهه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما هاجر الى المدينة

أولًا: الحروب بين الأوس والخزرج

كانت المدينة تموج بالحروب الأهلية بين الأوس والخزرج، بالرغم من أن الأوس والخزرج اخوة، فالأوس هم جميعًا أبناء ومن سلاسة رجل اسمه "الأوس" والخزرج من سلالة رجل اسمه "الخزرج" و"الأوس" و"الخزرج" اخوة وامهما اسمها "قيلة" ولكن مع ذلك كانت هناك عداوة شديدة جدًا بين قبيلتى الأوس والخزرج، وبينهما تاريخ طويل من الحروب الأهلية، عددها أكثر من عشرة حروب، آخرها حرب بعاث التى انتهت قبل الهجرة بخمسة سنوات فقط، وكانت أشهر وأدمي معركة بين اليثربيين، والتى أورثت في نفوسهم الكثير من الثارات والاحتقانات


كان بين الأوس والخزرج تاريخ طويل من الحروب الأهلية

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

ثانيًا: اليهود

وجود ثلاثة قبائل يهودية كبيرة في المدينة، وهي قبائل "بنى قينقاع" و"بنى النضير" و"بنى قريظة" وقد قابل اليهود الدعوة الاسلامية بالعداء الشديد، والسبب أنهم كانوا يطمعون أن يكون نبي آخر الزمان واحد منهم، ثم كانت المفاجأة القاسية بالنسبة لهم، ان يكون نبي آخر الزمان من العرب، لأن صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مذكورة في كتب أهل الكتاب قبل تحريفها بمنتهي الدقة، يقول تعالى ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) وهذا تعبير قرآني في منتهي الروعة، لأن الانسان يري ابنه أكثر مما يري ربما نفسه، فأنت تنظر الى ابنك أكثر مما تنظر الى نفسك في المرآة، وتري ابنك منذ كان عمره يوم واحد، أو حتى لحظة واحدة، بل تراه الآن وهو لا يزال جنينًا في بطن أمه، الشيء الوحيد الغير موجود في كتبهم، هو نسب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو موجود أن اسمه "محمد" وموجود أن اسمه "أحمد" وليس ليس مكتوبًا أنه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة الى أن نصل الى عدنان الى أن نصل الى اسماعيل بعد ذلك، وكان كل الأنبياء بعد ابراهيم –عليه السلام- من نسب يعقوب ابن اسحق، يعنى كل الأنبياء بعد ابراهيم من بنى اسرائيل، لأن يعقوب هو اسرائيل، وقد جاء بعد ابراهيم مئات الأنبياء وكلهم من "بنى اسرائيل" باستثناء نبي واحد هو اسماعيل –عليه السلام- وهو أبو العرب، ولم يأت نبي واحد من نسل "اسماعيل" ولذلك لم يأت في بال بنى اسرائيل، ولا في بال أحد أن يكون آخر الأنبياء من العرب وليس من بنى اسرائيل، ولكن جاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نسل اسماعيل –عليه السلام- وكأن الله تعالى يقول أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعدل كل الأنبياء

وبالرغم من ان عدد اليهود في المدينة كان كبيرًا، الا أنهم كانوا أقل عددًا من الأوس والخزرج، ولذلك كان الأوس والخزرج مستعلين على اليهود في المدينة، وكان يهود المدينة يشعرون بالقهر في مواجهة الأوس والخزرج، وكانوا لذلك ينتظرون نبي آخر الزمان لينتقم لهم من قهر الأوس والخزرج، وكانوا لا يفتئون يقولون للأوس والخزرج قبل قدوم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمدينة "قد أظل زمان نبي نقتلكم به قتل عاد وارم" وهذا بالطبع انحراف في التفكير، لأن نبي آخر الزمان لابد أن يكون للناس كافة، ولا بد أن يكون رحمة للعالمين، ولا يمكن أن يأتي نبي لمعادات طائفة من الناس على حساب طائفة أخري

فلما جاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نسل اسماعيل، كان الأمر بمثابة الصدمة بالنسبة ليهود المدينة، ولذلك قرروا معاداة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منذ أول يوم لدخوله المدينة 

من أمثلة ذلك عندما هاجر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى المدينة ذهب "حي بن أخطب" مع أخيه "ياسر بن أخطب" لرؤية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان "حي بن أخطب" من أحبار اليهود وسيد بنى النضير، فسأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متى توفي والدك ؟ ثم سأله: من الذي قام بتربيتك ؟ وأسئلة أخري كثيرة عن علامات النبي في كتبهم قبل تحرفيها، ثم طلب أن ينظر الى خاتم النبوة، فرآه بين كتفي النبي، فلما رجعا قال له أخوه: أهو هو ؟ قال وهو حزين: هو هو ! قال له: فماذا تنوي ؟ قال: عداوته ما بقيت

 

قال له: فماذا تنوي ؟ قال: عداوته ما بقيت

لذلك كان من أكبر المشاكل التى واجهت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي وجود اليهود في المدينة، واليهود معروفون بخبثهم ومكرهم ومكائدهم

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ 

ثالثًا: المشركين

وجود عدد كبير من المشركين، صحيح أن أغلبية أهل المدينة كانوا مسلمون، ولكن لم يكن كلهم مسلمون، وكان بعضهم لا يزال على شركه، ولم يجبر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحد على الاسلام، وهؤلاء كانوا يكرهون الاسلام ويكرهون المسلمون ويضمرون لهم البغض والعدواة

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

رابعًا: المنافقون

بعد الهجرة، ودخول أغلب أهل المدينة في الاسلام، ظهرت طائفة جديدة، وهي طائفة "المنافقون" والمنافق هو الذي يظهر ما لا يبطن، وهذه الطائفة لم تكن موجودة في مكة، لأن الاسلام كان ضعيفًا، ولكن ظهرت بعد الهجرة، وبعد أن أصبح للإسلام دولة، وخصوصًا بعد غزوة بدر، وهذه الطائفة أخطر كثيرًا من المشركين، لأن المشرك معروفة عداوته للإسلام، وتستطيع أن تأخذ منه حذرك، وأن تواجهه، بينما المنافق مثل المرض الخفي الذي يفتك بالجسم دون أن تشعر به، ولذلك عقاب المنافق أعظم من عقاب الكافر، يقول تعالى ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)) وكان المنافقون في المدينة تحت قيادة "عبد الله بن أبي بن سلول" لأن بعد أن أنهكت الحروب الأهلية الأوس والخزرج، وبعد حرب "بعاث" قرر عقلاء الطرفين وضع حد لهذه الحروب، واتفقا على تنصيب رجل واحد منهم يقبله الطرفان، ووقع الاختيار على "عبد الله بن أبي بن سلول" وكان من سادة الخزرج، ولكن رضيت به الأوس، لأنه كان هو أكثر المعادين لهذه الحرب، ولكن بعد بيعة العقبة الثانية، وهجرة الرسول وئدت هذه الفكرة، وطارت الزعامة من بين يديه، وزال ملك "عبد الله بن أبي" قبل أن يبدأ، ولذلك كان أهل المدينة يقولون أنهم ينظمون له خرز التاج الذي سيلبسه عندما هاجر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

خامسًا: المشكلة الإقتصادية

ظهرت في المدينة مشكلة اقتصادية، نتيجة هجرة عدد كبير من أهل مكة، وموارد المدينة محدودة، ولذلك لم يأمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه المهاجرين الى الحبشة بأن يأتوا اليه في المدينة


صورة قديمة لأحد شوارع المدينة

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

سادسًا: مشاكل المهاجرون

واجه المهاجرون عدد من المشاكل الحاصة بهم: أولها المشكلة السكنية والإقتصادية، لأن المهاجرين تركوا في مكة أموالهم وديارهم وأعمالهم، وزاد من عمق المشكلة الاقتصادية بالنسبة للمهاجرين أن اقتصاد المدينة يقوم على الزراعة، والعمل الأساسي لأهل المدينة هو الزراعة، وهي حرفة لا يجيدها أهل مكة، بل كان أهل مكة يأنفون من العمل في الزراعة، والتجارة هي العمل الوحيد الذي يجيده أهل مكة 

كذلك واجه المهاجرين عدة مشاكل اجتماعية، اولها شعورهم بالغربة وبالحنين الى مكة، وطبيعة العربي ارتباطه بوطنه ارتباطًا كبيرًا

ولذلك سيطر على المهاجرين بعد وصولهم الى المدينة حالة من الحزن والاكتئاب، حتى أن أكثر من نصف المهاجرين أصيب بالحمي بعد الهجرة، ويقال أن هذه الحمي كانت هي "الملاريا" وكان العرب تسميه "البرداء" لأن الذي يصاب به تأتيه رعشة، وعمق انتشار المرض بينهم احساسهم بالغربة من المدينة 


أصيب أكثر من نصف المهاجرين بالحمي بعد الهجرة

وعلميًا فان الانسان عندما يترك بلده ويهاجر الى بلد أخري، فانه غالبًا يصاب بالإكتئاب، فتقل المناعة في جسمه، ويكون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض

من المشاكل الإجتماعية التى ظهرت أيضًا، هو اختلاف العادات والتقاليد، فنساء المدينة كن أكثر جرأة وأقوي شخصية مع أزواجهن من نساء مكة، لأن زوجات أهل المدينة يعملن في الزراعة مع أزواجهن، بينما نساء مكة لا يعملن، لأن عمل أزواجهن التجارة، وبدأت زوجات المهاجرين يتعلمن من نساء الأنصار، وسبب ذلك مشاكل في بيوت المهاجرين، حتى في بيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفسه

وانتشر بين المهاجرين شعر كان يردده بلال يقول

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة * بفخّ وحَوْلي إذخر وجليل

وهل أردنْ يوما مياه مَجِنَّة * وهل يبدون لي  شامة وطفيل

ولذلك كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول 

اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدّ،َ اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ

ومعنى أن يدعو الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الدعاء أنه يشعر أن المهاجرين في مشكلة حقيقية

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

ماذا فعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمواجهة كل هذه المشاكل ؟

لم يتهرب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من هذه المشاكل، ولم يسوف، بل بادر الى مواجهة كل هذه المشاكل فور وصوله الى المدينة، واستطاع بالفعل أن يحل كل هذه المشاكل، وأن يجعل من المدينة دولة قوية متماسكة في زمن قياسي

ما الذي فعله الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمواجهة كل هذه المشاكل ؟ 

هذا ما سنتناوله في الفصل القادم ان شاء الله

 

*********************************

لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا

 

*********************************