Untitled Document

عدد المشاهدات : 4975

الفصل الرابع والسبعون: حل مشاكل المدينة وبناء الدولة

أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة  

الجُزْءُ السادس: من الهجرة حتى غزوة بدر الكبري

الفصل الرابع والسبعون 

*********************************

حل مشاكل المدينة وبناء الدولة

*********************************

 

 

*********************************

تحدثنا في الفصل السابق عن المشاكل التى واجهها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما هاجر من مكة الى المدينة، وقلنا أن هذه المشاكل هي

أولًا: أن المدينة كانت تموج بالحروب الأهلية بين قبيلتى الأوس والخزرج، والتى وصلت الى أكثر من عشرة حروب، وكان آخرها وأدماها هي حرب "بُعاث" والتى وقعت قبل الهجرة بخمسة سنوات، وقد خلفت هذه الحروب الكثير من الثارات والاحتقانات

ثانيًا: وجود اليهود في المدينة، وعداوتهم للإسلام، وللرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنهم كانوا يطمعون أن يكون "نبي آخر الزمان" من بنى اسرائيل

ثالثُا: وجود المشركين بالمدينة، وعداوتهم للإسلام

رابعًا: ظهور طائفة جديدة، وهي طائفة المنافقين بقيادة "عبد الله بن أبي بن سلول

خامسًا: ظهور مشكلة سكنية في المدينة، ومشكلة اقتصادية، نتيجة توافد هذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين، بينما موارد المدينة محدودة

سادسًا: معاناة المهاجرين من كثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والشعور بالغربة والحنين الى وطنهم

 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

برغم كل هذه المشاكل المعقدة جدًا، فان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استطاع في فترة قياسية أن يجعل المجتمع الاسلامي مجتمع شديد التماسك

كيف استطاع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحقيق هذا، وكيف تغلب على كل هذه المشاكل ؟

قام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سبيل ذلك بثلاثة أمور

أولًا: بناء المسجد

ثانيًا: تشريع الأخوة بين المهاجرين والأنصار

ثالثُا: وضع وثيقة المدينة 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

أولًا: بناء المسجد

كانت الخطوة الأولى هي بناء المسجد، وببناء المسجد استطاع تذويب الخلافات بين الأوس والخزرج، واستطاع تذويب الخلافات بين طبقات المجتمع 

ولذلك عندما وصل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى قُبَاء كان أول شيء فعله هو بناء المسجد، وكذلك أول شيء قام به في المدينة هو بناء المسجد، وكأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول لنا أنه لا بناء للأمة الإسلامية الا ببناء المسجد، أو لا بناء للأمة الإسلامية الا بتفعيل دور المسجد

يخطئ من يظن أن دور المسجد يقتصر على أداء الصلوات الخمس فحسب، بل إنه في بعض الدول الإسلاميّة يتم غلق المسجد بعد أداء الصلاة مباشرة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط، وفي الحقيقة دورُ المسجد في الأمة الإسلاميّة أعمق من ذلك بكثير

المسجد في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان هو مقر الحكم، والشوري، والمعاهدات، والقضاء، واستقبال الوفود، واعلان الأفراح، ومكان للترفيه، ومكان لتربية الأطفال، ومداواة المرضى، ومأوى للفقراء وعابري السبيل كان المسجد هو كل ذلك

بالطبع ليس شيئًا عمليًا أن يقوم المسجد بهذه الأدوار بنفس الشكل الذي كان عليه ايام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاتساع النطاق وكثرة الناس، وأصبح هناك ادارات ترعي شئون المجتمع، ولكن هناك عشرات الأفكار لاحياء دور المسجد في المجتمع

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

واختار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبناء المسجد تلك القطعة التى بركت فيها الناقة، وسأل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هذه الأرض، فقيل أنه أرض لغلامين يتيمين، اسمهما "سهل" و"سهيل" وكانت تستخدم كمكان لتجفيف التمر، ومبرك للأبل، فطلب أن يشتري منهما هذه القطعة من الأرض، فقالا له: "بل نهبه لك يا رسول الله"، إلا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رفض ذلك لعلمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحاجتهما، وعوّضهما بالثمن المناسب

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

بدء المسلمون على الفور في تسوية الأرض، وقطع النخيل الذي فيها، وبدؤا في بناء المسجد، واشترك جميع الصحابة في بناء المسجد، وعمل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنفسه مع الصحابة، فكان يحمل معهم الحجارة 

وبينما كان الصحابة بعملون، كان عمار بن ياسر -رضي الله عنه- يحمل لبنتين في كلّ مرّة، فجعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  ينفض التراب عن رأسه ويقـول : "يا عمار، ألا تحمل لبنة لبنة كما يحمل أصحابك ؟" فقال له عمار "إني أريد الأجر عند الله" فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ويح عمار، تقتله الفئة الباغية

وقد مات "عمار بن ياسر" بعد ذلك التاريخ بـ 37 سنة، في معركة "صفين" بين "على بن أبي طالب" و"معاوية" وهو يقاتل في صفوف جيش "على" وبموته زالت الشبهة عن كثير من المسلمين، وعلموا أن جيش معاوية هو الفئة الباغية، وأن "على بن ابي طالب" هو الذي على الحق 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

هكذا تم بناء المسجد: وكان طوله: 35 متر وعرضه 30 متر، فكانت مساحته 1050 متر مربع، وارتفاعه 2.50 متر، والأساس من الحجارة، وكان عمق الأساس حوالى متر ونصف، والجدار من الطوب اللبن، وهو الطوب النيء الذي لم يحرق بالنار، ويكون خليط من الطين والقش، ثم يوضع في قوالب حتى يجف، وكان السقف من الجريد، والأعمدة من جذوع النخل، ولم يكن كل المسجد له سقف، بل كان فقط الجزء الذي في جهة القبلة، وكانت القبلة لا زالت حتى بيت المقدس، وكان للمسجد ثلاثة أبواب، وأرضية المسجد لم تكن مفروشة بأي شيء، فقد كانت جزء من أرض المدينة، ولذلك كان الصحابة يدخلون المسجد ويصلون فيه بنعالهم

كذلك تم بناء حجرة لزوجته السيدة "سودة" ولها باب يفتح على المسجد، ولم يكن متزوجًا الا من السيدة "سودة" فقط، فلم يكن قد دخل بالسيدة عائشة 

هكذا كان وصف المسجد، عندما بناه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك بتوسعة المسجد في السنة السابعة من الهجرة، نتيجة زيادة عدد المسلمين، وقد استغرق بناء المسجد اثني عشر يوماً، وهو كما رأينا بناء في غاية البساطة، لأن قيمة المسجد ليست في شكله ولا في زخرفته، ولا من الذي افتتحه أو قصّ الشريط، فهذه كلها شكليات فارغة لا قيمة لها، بل على العكس من ذلك الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يَنْهَى عن هذه الشكليات، وكان ينهى عن المبالغة في تزيين المساجد، يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 

لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ بِالْمَسَاجِدِ" ويقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ فِيهِ بِالْمَسَاجِدِ ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً


مجسم المسجد النبوي في السنة الأولى من الهجرة


مجسم المسجد النبوي بعد التوسعة في السنة السابعة

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

 

ثانيًا: تشريع الأخوة بين المهاجرين والأنصار

ثاني شيء قام به الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد بناء المسجد هو وضع نظام المؤاخاة، حيث آخي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الأخوة أخوة حقيقية وأخوة كاملة، حتى أن الأخوين يرث كل منهما من الآخر، وذلك حتى يشعر المهاجرين والأنصار بجدية هذه الأخوة، حتي نسخ هذا الحكم بقوله تعالى ((وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ


كانت هذه الأخوة أخوة حقيقية وأخوة كاملة

ولم يقم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يؤاخي بين المهاجرين والأنصار وزنًا للفوارق الطبقية، حيث جمعت بين الغنى والفقير، والقوي والضعيف، والأبيض والأسود، والحر والعبد 

وقد نجح الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن طريق نظام الأخوة في تحقيق الآتي

أولًا: أن يتعلم المسلمين الجدد من الأنصار الإسلام من المهاجرين

ثانيًا: حل جميع مشاكل المهاجرين، سواء المشكلة السكنية، أو المشكلة الاقتصادية، وليس معنى هذا أن المهاجرين أصبحوا عالة على الأنصار، ولكن أن يقف الأنصار الى جوار المهاجرين لفترة من الوقت، وهي الفترة الصعبة، فترة بداية حياتهم في المدينة، حتى يقف المهاجرين على اقدامهم، ويزول عنهم الاحساس بالغربة، ويندمجوا في المجتمع

وذلك كما حدث مع "عبد الرحمن بن عوف" من المهاجرين، و"سعد بن الربيع" من الأنصار، بعد أن آخي بينهما الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرض "سعد بن الربيع" على "عبد الرحمن من عوف" أن يعطيه نصف ماله، بل عرض عليه أن يطلق احدي زوجتيه ليتزوجها "عبد الرحمن بن عوف" فشكر له "عبد الرحمن بن عوف" صنيعه، وقال له بل دلنى على السوق، يعنى ضعنى على أول الطريق، ولم يمر وقت طول حتى عاد "عبد الرحمن بن عوف" من أصحاب المال والثراء

والحقيقة أن صور التفاني والتضحية التى قام بها الأنصار تجاه اخوانهم من المهاجرين أمر لم يحدث لها مثيل في تاريخ البشرية كلها، فكل قصص الهجرات في التاريخ كله في العالم كله، نجد فيها حروب دامية بين المهاجرين وبين السكان الأصليين 


عرض "سعد بن الربيع" على "عبد الرحمن من عوف" أن يعطيه نصف ماله 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

ثالثُا: وضع وثيقة المدينة 

الخطوة الثالثة التى قام بها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي وضع وثيقة المدينة، وهو بلغة العصر "دستور المدينة" والذي يعتبر أول دستور مدني في التاريخ، ومفخرة من مفاخر الحضارة الاسلامية

هذا الدستور حوي اثنين وخمسون بندًا: خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون خاصة  بالعلاقة بين المسلمين من جهة، وغير المسلمين من جهة أخري، وهم المشركين واليهود، وقد كفل هذا الدستور لأصحاب الأديان الأخري من المشركين واليهود جميع الحقوق الانسانية كحرية الاعتقاد، وحرية اقامة شعائرهم، والمساواة والعدل، كما نصت بنود هذا الدستور على أنه في حالة مهاجمة المدينة من قبل عدو فعليهم أن يتحدوا جميعًا لمواجهته 

وبإبرام هذا الدستور –وإقرار جميع الفصائل بما فيه- صارت المدينة المنورة دولة وفاقية رئيسها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، لجميع أهل المدينة


ورقة تاريخية من دستور المدينة

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

هكذا استطاع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في فترة وجيزة جدًا وبعبقرية أن يحل جميع المشاكل المعقدة جدًا التى واجهت المسلمين عشية هجرتهم الى المدينة

 

*********************************

لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا

 

*********************************