أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجُزْءُ الحادي عشر: غزوة الأحزاب
الفصل التاسع والأربعون بعد المائة
*********************************
غزوة الأحزاب- الجزء الثالث
المناوشات وقتل عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ
*********************************
*********************************
ملخص ما سبق
قلنا أن اليهود في "خيبر" قاموا بتحريض وتأليب وتجميع القبائل لحرب المسلمين، وقلنا أنهم نجحوا في حشد جيش ضخم قوامه 10000 مقاتل، وهو جيش لم تشهده الجزيرة العربية من قبل
وقلنا أن المسلمين استقر رأيهم على التحصن في المدينة، وعدم الخروج لملاقاة المشركين، لأن المدينة محصة بطبيعتها الجغرافية، سواء من الجهة الشرق بالحرة الشرقية، ومن جهة الغرب بالحرة الغربية، ومن جهة الجنوب بجزء من الحرة الغربية وبالأحراش ومساكن "بنى قريظة"
أما جهة الشمال فقد أخذ المسلمون برأي "سلمان الفارسي" بحفر خندق يمتد من الحرة الشرقية الى الحرة الغربية
وقلنا أن العمل في الخندق استمر اسبوعين كاملين، حتى اكتمل الحفر قبل أن تصل جيوش الأحزاب، وكان الخندق عريضًا بحيث لا تستطيع فرسان العدو عبوره بالقفز، وعميقًا بحيث اذا سقط فيه أحد لا يستطيع الخروج منه
وصلت الأحزاب الى المدينة ففوجئت بالخندق، ووقف "أبو سفيان بن حرب" سيد قريش وقال "هذه حيلة لم تعرفها العرب"
وتوزع المسلمون خلف الخندق ليمنعوا المشركين من أي محاولة للتخطي وعبور الخندق، أو أي محاولة لردمه، وكان مقر قيادة الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند جبل سلع
أمر الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تكون النساء والأطفال داخل الحصون، بحيث اذا حدث اقتحام للخندق، ووقعت حرب شوارع تكون النساء والأطفال داخل الحصون
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
محاولات الأحزاب اقتحام الخندق
أخذ فرسان المشركين يدورون حول الخندق غضبًا، يحاولون أن يجدوا نقطة ضعف ينفذون منها الى المدينة، وأخذ المسلمون يرمونهم بالسهام حتى لا يقتربوا من الخندق، أو أن يحاولوا أن يردموا جزء من الخندق فيبنوا طريقًا يعبروا عليه
وبدأت مناوشات بين الطرفين، كان المشركون فيها مصرون على اقتحام الخندق، واستبسل المسلمون في المقابل في منع المشركين من ذلك
وحاول بعض فرسان الأحزاب بمحاولات فردية لاقتحام الخندق، ولكنهم فشلوا، ومن هؤلاء "نوفل بن عبد الله بن المغيرة" الذي حاول أن يقتحم الخندق بفرسه فوقع فيه ولم يستطع الخروج فقتله المسلمون، فبعث الكفار الى المسلمين يطلبون شراء جسده، فأعطاهم الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جسده بلا مقابل وقال:
- لا خير في جسده ولا في ثمنه
قام الأحزاب بمحاولات فردية لإقتحام الخندق، ولكنهم فشلوا
وكانت أخطر هذه المحاولات ما قام به كتيبة ضخمة من الفرسان بقيادة "خالد بن الوليد" ولكن تصدي لهم "أسيد بن حضير" بكتيبة من مائتى مسلم، وردهم مهزومين
ومن شدة هذه المكافحة الشديدة بين المسلمين والأحزاب، فاتت صلاة العصر على الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أحد هذه الأيام
روي البخاري عن جابر أن عمر بن الخطاب جاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يسب الكفار، ويشتكي الى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قد فاتته صلاة العصر، فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- وأنا والله ما صليتها
فصلى النبي صلاة العصر بعد أن غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب
وفي يوم آخر بسبب الإشتغال بهذه المناوشات لم يستطع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يصلى الظهر والعصر والمغرب فى مواعيدهم، وصلاهم جميعًا في وقت العشاء
وأسفرت هذه المناوشات عن قتلي وجرحي من الجانبين، أغلبهم بسبب رمي السهام من الجانبين، وأصيب في هذه المناوشات "سعد بن معاذ" سيد الأوس، ومات بعد انتهاء المعركة متأثرًا باصابته
أصيب في المناوشات "سعد بن معاذ" ومات بعد انتهاء المعركة متأثرًا باصابته
وأمر الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تنصب خيمة في مسجده لعلاج الجرحي، وجعل رئيسة هذه المستشفي امراة من الأنصار اسمها "رفيدةٌ الأسلميةُ"
جعل الرسول رئيسة المستشفى امراة من الأنصار اسمها "رفيدةٌ الأسلميةُ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
مبارزة "على بن ابي طالب" و"عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ"
في هذه الأيام استطاع خمسة من فرسان الأحزاب اقتحام الخندق في أحد الأماكن الضيقة، وتقدموا بخيولهم أمام جبل سلع، وكان هؤلاء الخمسة فيهم ثلاثة من اشهر فرسان قريش وهم "عمرو بن ود" و"عكرمة بن أبي جهل" و"ضرار بن الخطاب" وكان أشهرهم هو "عمر بن ود" وكان أقوي فارس في الجزيرة العربية، ويطلق عليه "فارس العرب" وأطلق عليه "بطل العرب" وأطلق عليه "فارس ياليل" وقصة هذا اللقب أنه كان يسير في احدي الليالي بفرسه مع عدد من أصحابه، فهجم عليه عشرة فرسان من قطاع الطرق في وادِ فهرب كل أصحابه، وأخذ هو يصارعهم وحده حتى قتلهم جميعًا، فعرف من ذلك اليوم، بفارس ياليل
استطاع خمسة من فرسان الأحزاب اقتحام الخندق
تقدم "عمرو بن ود" وطلب أن يخرج له أحد من المسلمين للمبارزة، ودعا الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسلمين الى ان يخرج اليه أحد، ولكن لم يخرج اليه أحد، ثم قام "على بن ابي طالب" وقال:
- يا رسول الله أنا أخرج اليه
فقال له الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
- اجلس يا على انه عمرو بن ود
وأخذ عمرو بن ود يسخر من المسلمين ويقول:
- أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ هل فيكم من أرسله إلى الجنّة، أو يدفعني إلى النار؟
فدعا الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يخرج اليه أحد من المسلمين، فلم يخرج أحد وقام على للمرة الثانية، وقال:
- يا رسول الله أنا أخرج اليه
فقال له الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرة ثانية:
- اجلس يا على انه عمرو بن ود
فجلس على واستمر "عمرو بن ود" في استفزاز المسلمين والسخرية منهم، والكفار في الجهة المقابلة يشاهدون ذلك وقد تعالت ضحكاتهم، وأنشد "عمرو بن ود أبياتًا
ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذا جبن المشجّع موقف البطل المناجز
إنّ السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز
صرخ " عمرو بن ود " أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها
فدعا الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يخرج اليه أحد من المسلمين للمرة الثالثة، فلم يخرج أحد وقام على للمرة الثالثة، وقال:
- يا رسول الله أنا أخرج اليه
فقال له الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
- اجلس يا على انه عمرو بن ود
فقال على:
- وان كان عمرواّ يا رسول الله
فدعاه الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعممه وقلده سيفه ودعا له، وقال
- اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته
ثم قال له:
- تقدم
فانطلق اليه "على بن أبي طالب" وهو يقول
لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز
إنّي لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز
والهزاهز هي السيوف صافية المعدن
ويقول الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه
وقف "على" أمام "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ" وقال له:
- يا عمرو قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك أحد من قريش إِلَى خَلَّتَيْنِ إِلَّا قَبِلْتَ مِنْهُ أَحَدَهُمَا
قال:
- أجل
قال على:
- فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْلَامِ
فَقَالَ :
- لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ
قَالَ :
- فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى الْبِرَازِ
فغضب "عمرو بن ود" وقال:
- ما كنت أظن أحداً من العرب يرومها مني
ثم قال "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ"
- من أنت يا فتى ؟
قال:
- على !
قال:
- ابن من ؟
قال:
- على بن ابي طالب
فقال له "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ"
- عِنْدَكَ يَا ابْنَ أَخِي ان أباك كان صديقًا لي، فَانْصَرِفْ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُهَرِيقَ دَمَكَ
فَقَالَ عَلِيٌّ:
- لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا أَكْرَهُ أَنْ أُهَرِيقَ دَمَكَ
قال على بن ابي طالب: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى الْبِرَازِ
فحمي غضب "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ" ونزل من على فرسه، وسل سيفه كأنه شعلة نار، وضرب ساق فرسه فقطعها، وهجم على "على" وأخذ يضربه بسيفه ضربات قوية، وعلى يتقيه بترسه، حتى انكسر ترس "على"
واستمر النزال بين على وبين "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ" فترة طويلة، وعلا الغبار حولهما من شدة النزال، لدرجة أن كلا الجانبين المسلمين والكفار لم يستطيعوا رؤية القتال
ثم توقف القتال وسمع الجميع صيحة "الله أكبر" فاعتقد الجانين المسلمين والكفار أن الذي يقول "الله أكبر" هو "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ" ليستدرج بعض المسلمين ويقتلهم، ثم انقشع الغبار ورأي المسلمون "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ" قتيلًا مدرجًا في دمائه، فكبر المسلمون
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
- هَلَّا أَسْلَبْتَهُ دِرْعَهُ فَلَيْسَ لِلْعَرَبِ دِرْعًا خَيْرًا مِنْهَا
فَقَالَ : ضَرَبْتُهُ فبدت ِسَوْءَتِهِ وَاسْتَحْيَيْتُ ابْنَ عَمِّي أَنْ أَسْتَلِبَهُ
ولذلك عندما وصل الى أخت "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ" جسد أخيها بعد ذلك، ووجدت أن الذي قتله لم يسلبه درعه الثمين، قالت:
- ما قتله إلا كفؤ كريم.
بعد قتل "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ" خرجت بقية خيل المشركين منسحبة، وهم من الرعب في نهاية، حتى ترك "عكرمة بن أبي جهل" رمحه، وتبعهم المسلمون وقتلوا منهم اثنين، بينما اقتحم الآخرين الخندق وعادوا منهزمين
رأي المسلمون "عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ" قتيلًا مدرجًا في دمائه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
استمرار الحصار شهرًا كاملًا ومأزق الأحزاب
استمر حصار الأحزاب للمدينة، واقترب الحصار لمدة شهر كامل، وكانت هذا مشكلة عند الأحزاب، لأنهم أتوا الى المدينة وهم غير مستعدون لفرض الحصار لمدة طويلة، ولم يكن الحصار من الأمور التى اعتادها المسلمون في الحرب
وكان قد خرج مع جيش الأحزاب "حي بن أخطب" سيد "بنى النضير" والذي كان له الدور الأكبر في تجميع هذه الأحزاب، وكان من أشد اليهود كفرًا وحقدًا وحسدًا للمسليمن
اجتمع "حي بن أخطب" مع زعماء الأحزاب، ووجدوا أن الحل هو أن تنضم اليهم "بنى قريظة" لأن "بنى قريظة" كما ذكرنا في الجنوب الشرقي للمدينة، ولو فتحوا الأبواب للمشركين لاجتاحوا المدينة، فما بالك لو حاربوا مع المشركين
انطلق "حي بن أخطب" الى ديار بنى قريظة، وأتي "كعب بن اسد" سيد "بنى قريظة" وطلب منه أن ينضم للقتال مع الأحزاب
هل استجابت له "بنى قريظة"
وما الذي حدث بعد ذلك
هذا سيكون حديثا في الفصل القادم ان شاء الله تعالى
|