Untitled Document

عدد المشاهدات : 2834

الفصل الواحد والثمانون بعد المائة: ما بعد الحديبية

 أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة

الجُزْءُ الثالث عشر: صلح "الحديبية"
الفصل الحادي والثمانون بعد المائة
*********************************
ما بعد الحديبية
*********************************

*********************************
الرسول يرفض اعادة المسلمات المهاجرات الى مكة
تحدثنا على مدار خمسة حلقات عن صلح الحديبية، وقلنا أنه كانت هناك معارضة قوية من الصحابة للبند الرابع في صلح الحديبية، وكان هذا البند يقول أن يعيد المسلمين من أسلم من أهل مكة بعد الصلح لقريش، ولا تعيد قريش من ارتد من المسلمين الى المدينة 
وبمجرد وصول الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى المدينة، وصلت بعض المؤمنات مهاجرات من مكة الى المدينة، وأسرعت قريش تطالب الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأعادة هؤلاء النساء الى مكة كما تقول المعاهدة
ولكن الرسول رفض وقال لهم ان نص المعاهدة ينص على اعادة الرجال فقط
تقول المعاهدة "وعلى ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته علينا"
وكان ذلك من شفقته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المرأة، لأن قريش تعذب المسلمين  وتفتنهم في دينهم، وقد وصاهم الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالصبر حتى يأتي نصر الله فقال أبو جندل " يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجا"
ولكن المرأة قد لا تحتمل هذا التعذيب لأنها أضعف من الرجل، فكان الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حريصًا على ألا تتحمل مع الرجال هذا العبأ، ولذلك نص في المعاهدة على كلمة "رجل" ولذلك أيضًا كان الرسول هو الذي يملي بنود المعاهدة و"على بن ابي طالب" هو الذي يكتبها، وفي النهاية وقع عليها "سهيل بن عمرو"
وهذه اشارة الى أهل الحق أن يبعدوا المرأة دائمًا عن ساحة المعركة في صراعهم مع الباطل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
القرآن يؤكد أنه لايجوز اعادة المرأة المؤمنة الى قريش
وحاولت قريش أن تجادل في هذا الأمر، ولكن الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصر على موقفه ونزلت آيات من القرآن العظيم تؤكد أنه لايجوز اعادة المرأة المؤمنة الى قريش، ولايجوز أن تظل المرأة مع زوجها الكافر
يقول تعالى في سورة الممتحنة

"إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ" يعنى تأكدوا من ايمانهن، حتى لا تستغل بعض النساء الموقف، فتأتي الى المدينة ليست بسبب ايمانها ولكن فرارًا من زوج لا تحبه أو غير ذلك 
"اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ" فلكم الظاهر، ولا تستطيعوا أن تشقوا عن قلبوهن 
"فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ" وهنا نزل حكم التفريق بين المرأة المسلمة وزوجها الكافر
"وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا" يعنى المرأة المؤمنة التى تركت زوجها الكافر، أعيدوا الى هذا الزوج الكافر الصداق أوالمهر الذي دفعه في هذه المرأة المؤمنة، حتى يستطيع أن يتزوج امرأة أخري تصلح له، وهذا هو العدل المطلق في الإسلام، أنه يحرص على حقوق غير المسلم حتى ولو على حساب المسلم
"وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ" يعنى هذه المرأة المؤمنة التى هاجرت، أصبحت بعد الهجرة حرة وليست على ذمة زوج، فلا حرج أن يتزوجها أحد المسلمين، ودائمًا تجد حرص في الشرع على ألا تظل امرأة بلا زواج، ولا يظل رجل بلا زوج
"إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ" يعنى بشرط أن تعطيها صداقها "مهرها" فلا تقول في نفسك أن ظروفها صعبة، وأنها بلا أهل وفي حاجة الى زوج، وتستغل ذلك، فتتزوجها بلا صداق
"وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ" يعنى لا يجوز كذلك للرجل المسلم أن يتزوج من كافرة، ومن كان من المؤمنين متزوجًا من امرأة مشركة فلابد أن يطلقها ويعيدها الى أهلها، لأن المرأة الكافرة يستحيل أن تربي ابنائها على معاني الإسلام والعقيدة الصحيحة، وكذلك بالنسبة للرجل الكافر
وعند نزول هذه الآية طلق المسلمون نساءهم الكافرات، وتتعجب ان من هؤلاء "عمر بن الخطاب" طلق زوجين من الكفار كانتا عنده وأعادهما الى مكة، مع أن عمر هو دائمًا مثال الشدة في الدين – الشدة وليس التشدد- وهذا يدل على مثالية التعايش بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع المسلم، وهذا هوالتطبيق العملي المثالي لقوله تعالى ((لا اكراه في الدين))
"وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا" يعنى طالبوا المشركين بالمهر الذي دفعتموه في هذه المرأة، والمشركين في المقابل يطالبوا بالمهور التى دفعوها في نساء المؤمنين
ثم يقول تعالى ((وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ))
ولكن من الممكن جدًا أن يطلق الرجل المسلم زوجته الكافرة ويطالب أهلها بالمهر الذي دفعه، فيرفض أهلها المشركين دفع هذا المبلغ وهذا هو قوله تعالى "وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ" فيكون الحل كما قال تعالى "فَعَاقَبْتُمْ" يعنى حدثت مواجهة بينكم وبين المشركين، وحصلتم منهم على غنيمة "فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا" اعطوا هؤلاء من مال الغنيمة المهر الذي دفعوه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هجرة "أبو بصير" واعادته الى قريش
بالنسبة للرجال أول من من هاجر من مكة الى المدينة رجل اسمه "أبو بصير" و"أبو بصير" كان من ثقيف، ولكنه كان يعيش في مكة، وقد أسلم "أبو بصير" بعد صلح الحديبية، أو قبل صلح الحديبية بقليل، وتعرض للتعذيب الشديد من أهل مكة، ثم استطاع الفرار منهم واتجه الى "المدينة" 
وبمجرد خروجه من "مكة" علمت "قريش" بخروجه، وأرسلت وراءه رجلين حتى يقوما باعادته حسب بنود المعاهدة 
واضطر الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى تسليم "أبو بصير" الى هذين الرجلين من قريش، كما فعل من "أبو جندل" 
ومرة أخري كان هذا الموقف الصعب جدًا على الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى كل المسلمين في المدينة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
حيلة "أبو بصير" وقتله الرجل من قريش
ولكن في طريق العودة، وعند "ذي الحليفة" جلس الثلاثة لتناول الطعام، وذهب أحد الرجلين لقضاء حاجته 
فأخرج القاعد عند أبي بصير سيفه ثم أخذ يهزه ويقول مفتخرًا: 
- لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل
فقال له أبو بصير: 
- والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً 
فقال: 
- أجل والله إنه لجيد لقد فعلت به كذا وقتلت به كذا. 
فقال أبو بصير: 
- أرني أنظر إليه. 
فناوله إياه .. فما كاد السيف يستقر في يده، حتى ضرب به الرجل وقتله
وعاد الرجل الأول فوجد صاحبه مقتولًا، فأصابه الذعر وهرب في اتجاه المدينة، لأنه يعلم أنه سيجد العدل عند الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما أقبل الرجل قال الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
- لقد رأي هذا ذعرًا
فلما انتهي الى الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال 
- قتل والله صاحبي، واني لمقتول
وجاء "أبو بصير" يجري خلف هذا المشرك، حتى وصل الى الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال:
- يا نبي الله! قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فضمنى اليكم
ولكن رفض الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرة أخري أن يظل "أبو بصير" في المدينة
فقال أبو بصير:
- يا رسول الله، أعطني رجالاً أفتح لك مكة
فقال الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
- ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال
"ويل أمه" كلمة مدح عند العرب، و"مسعر حرب" يعنى مؤجج حرب، لو كان معه رجال يشاركونه في هذا الأمر
وهذه اشارة من الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي بصير بأن يستعين بمن معه من المستضعفين المسلمين، لأنه لا يستطيع أن يصنع شيئًا وحده، واشارة الى أن يخرج المستضعفين من المدينة، وليس شرطًا أن يتجهوا الى "المدينة" فيمكن أن يخرجوا ويتجهوا الى أي مكان آخر في الجزيرة
وترك الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي بصير التفكير والإبداع فيما يمكن أن يفعله هو والمستضعفين من المسلمين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
"أبو بصير" مسعر حرب
وبالفعل خرج "أبو بصير" من المدينة واتجه الى منطقة "العيص" على بعد 220 كم من المدينة، وهي في طريق تجارة قريش الى الشام، وكان الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  قد أرسل سريتين من قبل الى "العيص" لاعتراض عير قريش 

منطقة العيص
وظل "أبو بصير" في هذا المكان وكلما مرت به قافلة من "قريش" اعترضها وقتل منها، وأخذ من غنائمها ما استطاع

كلما مرت قافلة من "قريش" اعترضها "أبو بصير" 
وسمع به المسلمون في "مكة" وعرفوا مكانه، فأخذوا يهربون واحدًا وراء الأخر ويتوجهون اليه، وكان ممن لحق به "أبو جندل" حتى تجمع مع "أبي بصير" مجموعة قوامها سبعين رجلًا، واخذوا يهاجمون قوافل قريش التى تمر بهذه المنطقة، وهي طريق تجارة قريش الرئيسي الى الشام

أخذت المجموعة تهاجم قوافل قريش التى تمر بهذه المنطقة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قريش تطلب الغاء البند الرابع من المعاهدة
وهكذا هددت هذه المجموعة تجارة قريش مرة أخري، مع أن من أهم أسباب عقد قريش لصلح الحديبية هو أن تنقذ تجارتها التى لا يتوقف المسلمين عن اعتراضها 
فأرسلت قريش الى الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تطلب منه أن يتوقف المسلمين عن اعتراض تجارتهم كما هي بنود الصلح، ولكن كان رد الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنهم ليسوا داخل المدينة والمعاهدة كانت بين مكة والمدينة، فارسلت الى الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تطلب منه أن يسمح لهم بدخول المدينة، وأن يلغي هذا البند من صلح الحديبية، وهو البند الذي أثار كل هذا الاعتراض من الصحابة
وهكذا أصبحت المعاهدة كلها خالصة لصالح المسلمين، وصدق الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال لأبو جندل " يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجا"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
صلح الحديبية "الفتح المبين"
سنري في الحلقات القادمة كيف كان صلح الحديبية "فتحًا مبينًا" كما قال الله تعالى:
- انتشر الاسلام في الجزيرة العربية، وكان عدد الذين أسلموا في العامين بعد صلح الحديبية وحتى فتح مكة أضعاف الذين أسلموا في الـ 17 سنة قبل صلح الحديبية، وقارن بين أعداد الذين خرجوا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صلح الحديبية كانوا 1400 رجل وأعداد الذين خرجوا لفتح مكة بعد عامين من صلح الحديبية 10000 مقاتل
- بدأ زعماء مكة في التفكير في الاسلام، وكان ممن أسلم بعد الحديبية: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة
- اتجه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى اليهود في خيبر والذين كانوا لا يتوقفون عن الكيد للإسلام، وقبل "الحديبية" لن يستطع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يحارب يهود خيبر حتى لا يفتح جبهتين للقتال في نفس الوقت
- بداية مراسلات الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لزعماء وقادة العالم، فراسل كسري وقيصر وزعماء العرب في كل مكان يدعوهم الى الدخول في الاسلام

 
سنتحدث –ان شاء الله تعالى- بالتفصيل عن هذه الأمور في حلقات قادمة
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

*********************************

لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا

*********************************