أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجُزْءُ الرابع عشر: الأحداث من "الحديبية" الى "خيبر"
الفصل الرابع والثمانون بعد المائة
*********************************
رسالة الرسول الى كِسْري ملك فارس
*********************************
*********************************
ملخص ما سبق
بدئنا في الفصل السابق حديثنا عن رسائل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى الملوك والزعماء داخل وخارج الجزيرة العربية، لأن الإسلام دين عالمي، يقول تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ويقول تعالى ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا
وقلنا أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدأ في ارسال هذه الرسائل في شهر "ذي الحجة" من السنة السادسة من الهجرة، فور عودته من صلح الحديبية
وقلنا أن السبب هو أن صلح الحديبية كان يعنى اعتراف "قريش" بالدولة الاسلامية، وبالتالي أعطي شرعية للدولة الإسلامية، ولو كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد قام بارسال هذه الرسائل قبل الحديبية لما التفت الى هذا الرسائل أحد لأنها ستعتبر رسائل موجهة من جماعة مارقة وليست من دولة لها شرعية ولها سيادة
وتحدثنا في الفصل السابق عن رسالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى "هرقل" قيصر الروم، وكيف كانت رغبة "هرقل" الواضحة للدخول في الإسلام، ولكن واجه معارضة قوية وعنيفة من حاشيته، فتراجع سريعًا خوفًا على عرشه وخوفًا على ملكه، ثم وجد نفسه بعد ذلك منجرفًا لمقاومة وحرب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في "مؤتة" و"تبوك"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كسري الذي أرسل اليه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرسالة
نتحدث في هذا الفصل عن رسالة أخري من رسائل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي رسالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى كسري زعيم فارس
وفارس هي واحدة من أكبر دولتين في العالم في ذلك الوقت، لأن العالم في ذلك الوقت كان مقسمًا بين الإمبراطورية الفارسية في الشرق والإمبراطورية البيزنطية في الغرب
وكسري هو لقب كل من يحكم الإمبراطورية الفارسية، كما ان "قيصر" كان هو لقب كل من يحكم الإمبرطورية البيزنطية
وكسري الذي أرسل اليه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرسالة كان اسمه "خُسرو الثاني" وكان لقبه "إبرويز" يعنى المظفر، لأنه كان قد حقق انتصارات كبيرة على الروم
الإمبراطورية الفارسية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
"عبد الله بن حذافة" حامل رسالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والذي حمل الرسالة هو "عبد الله بن حذافة" و"عبد الله بن حذافة" هو الذي في عهد "عمر بن الخطاب" أسره الروم، وحاول ملك الروم أن يجعله يتنصر فأبي، والقصة طويلة، ولكن وصل الأمر الى أن أن ملك الروم قال له: تنصر أشركك في ملكي، فأبى فأمر به أن يصلب, ثم أمر أن ترمي عليه السهام فلم يجزع "عبد الله بن حذافة", فأمر قيصر بانزاله وأمر بقدر فصب فيها الماء وأغلى عليه وأمر بإلقاء أسير فيها, حتى لاحت عظامه, فأمر بإلقائه إن لم يتنصر فلما ذهبوا به بكى، قال: ردوه, فقال: لم بكيت؟ قال: تمنيت أن لي مائة نفس تلقى هكذا في الله، فعجب ملك الروم وقال له: قبل رأسي وأنا أخلي عنك، فقال: وعن جميع أسري المسلمين، فقال: نعم، فقبل رأسه فخلي بينهم وقدم على عمر، وقصوا عليه ما حدث، فقام عمر وقبل رأسه
اذن "عبد الله بن حذافة" شخصية صلبة جدًا ومعتزة بنفسها، ولذلك فلن يهتز عندما يدخل على كسري وهو في ملكه وايوانه، ولذلك أختاره الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهذه المهمة
قال "عبد الله بن حذافة" تمنيت أن لي مائة نفس تلقى هكذا في الله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لقاء عبد الله بن حذافة" وكسري
دخل "عبد الله بن حذافة" على كسري وهو يحمل رسالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأومأ كسري إلى أحد رجاله بأن يأخذ الكتاب من يده فقال:
- إنما أمرني رسول الله أن أدفعه لك يدًا بيد وأنا لا أخالف أمرًا لرسول الله
فقال كسري لرجاله:
- اتركوه يدنو منى
فاقترب من كسري حتى ناوله الكتاب بيده
دفع كسري الخطاب الى المترجم، وقرأ فيه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً؛ لأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ
ايوان كسري حيث لقاء عبد الله بن حذافة" وكسري
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما ان سمع "كسري" رسالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى استشاط غضبًا، وخطف الرسالة من يد المترجم ومزقها وهو يقول في غطرسة:
- عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي
وسب كسري الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعندما وصل ذلك الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:
- مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ
وقد كان ذلك في غصون سنوات قليلة من ذلك الموقف، مزَّق الله تعالىّ مُلك كسرى تمامًا، وسقطت الامبراطورية الفارسية على ايدي المسلمين في عهد "عمر بن الخطاب"
لم يكتفِ "كسري" بذلك بل أراد أن يعتقل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يعاقبه
قال كسري "عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
"كسري" يحاول القبض على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أرسل ملك الفرس رسالة إلى عامله على بلاد اليمن، لأن اليمن كانت تابعة للإمبراطورية الفارسية، وكان عامله على اليمن فارسيًا واسمع "باذان" وطلب منه كسري أن يبعث رجلين من رجاله ليأتي برسول الله إلى المدائن عاصمة فارس.
وكان "كسري" يريد بذلك اذلال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واذلال المسلمين، لأنه لم يرسل بعض جنوده من عاصمة ملكه "المدائن"، وانما أمر أن يرسل رجلين فقط والذي يرسلهما هو أحد عماله
وبالفعل أرسل "باذان" جنديين من اليمن للقبض على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي الطريق مرا بالطائف، وعلم أهل الطائف بالأمر ففرحوا واستبشروا وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك كفيتم الرجل.
ووصل الجنديين الى المدينة المنورة، وابلغوا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما قال "كسري" وقالا له:
- وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.
فطلب منهما الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هدوء أن ينتظرا الى اليوم التالي وسوف يرد عليهما
وفي اليوم التالي بعث الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى الجنديين وقال لهما شيء عجيب، قال لهما:
- إِنَّ رَبِّي قَتَلَ رَبَّكُمُ اللَّيْلَةَ
وبالفعل في هذه الليلة في ليلة الثلاثاء العاشر من جمادي الآخرة من السنة السابعة من الهجرة، قتل كسري فارس "خُسرو الثاني" الملقب "أبرويز" على يد ابنه "شيرويه"
فلما قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك للجنديين فزعا وقالا له:
- هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب عنك هذا، ونخبر الملك باذان؟
فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هدوء وثقة:
- نَعَمْ أَخْبِرَاهُ ذَاكَ عَنِّي، وَقُولاَ لَهُ أَيْضًا: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي إِلَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ. وَقُولاَ لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكِ
رحلة رسولا "باذان" من "صنعاء" الى "اليمن"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اسلام "باذان" واسلام كل الفرس في اليمن
وصل الجنديان الى "باذان" ملك اليمن، واخبراه برسالة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال:
- والله ما هذا بكلام ملك، فان كان ما يقول حقًا فهو رسول
وما لبث أن جاء خطاب من "شيرويه بن ابرويز" الزعيم الجديد في بلاد فارس إلى باذان عامله على اليمن، يقول فيه: إنه قد قتل أباه أبرويز؛ لأن أبرويز قد قتل الكثير من أشراف فارس، ويطلب منه بيعة أهل اليمن
وعلم "باذان" الليلة التى قتل فيها "أبرويز" فوجد أنها هي نفس الليلة التى أخبر عنها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأيقن أنه رسول، وأن الذي أخبره هو وحي من عند الله تعالى لأن المسافة بين المدينة والمدائن هائلة وبعيدة، ومستحيل على أهل هذا الزمن بأيِّ صورة من الصور أن يعرفوا الأحداث التي تحدث في بلد آخر إلا بمعجزة خارقة
وهنا أخذ باذان قرار الإسلام! فأسلم، وأسلم أبناؤه، وأسلم كل الفرس تقريبًا في اليمن، وأسلم الرسولان اللذان بعثهما باذان إلى رسول الله ، ثم أسلم بعد ذلك كثير من أهل اليمن، وكان اسلام اليمن اضافة كبيرة جدًا لقوة المسلمين
أما كسرى فارس الجديد "شيرويه بن أبرويز" فلم يفكر في الإسلام، وظلت العلاقات بين الدولة الاسلامية والفارسية متجمدة، الا أن بدأت المواجهات بين الدولتين في عهد الصديق –رضى الله عنه-
|