أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجُزْءُ السادس عشر: الأحداث من "خيبر" الى "مؤتة"
الفصل التاسع والتسعون بعد المائة
*********************************
غزوة "ذات الرقاع"
*********************************
*********************************
الرَسُولُ يقرر الخروج الى "غطفان" فور العودة من "خيبر"
تحدثنا عن ملحمة خيبر، والتى وقعت في "محرم" من السنة السابعة من الهجرة، والتى انتهت بانتصار ساحق للمسلمين وهزيمة منكرة لليهود
وتخلص الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد خيبر من خطر اليهود نهائيًا، وكان الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد استطاع قبل خيبر تحييد قريش بصلح الحديبية، وبدأت أعداد كبيرة من العرب في الدخول في الإسلام، وأخذت قوة المسلمين تكبر وتنمو
ولكن بقي من أعداء المسلمين في الجزيرة قبيلة غطفان، وهي مجموعة كبيرة من القبائل الشرسة المرتزقة الذين يعيشون على السلب والنهب وقطع الطرق
وقد قامت غطفان من قبل بالغدر بالمسلمين في أحداث بئر معونة وغيرها، ثم كان لهم الدور الأكبر في غزوة الأحزاب حين حاصروا المدينة بستة آلاف مقاتل، وكانوا على وشك الإشتراك مع اليهود في خيبر لولا أن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسرع بارسال سرية الى غطفان، فعادوا الى ديارهم
ولذلك قرر الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الخروج الى غطفان في "ربيع الأول" من السنة السابعة من الهجرة، فور العودة من "خيبر" فلم تكن هناك لحظة ضائعة في حياة الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحياة هذا الجيل من الصحابة، وهذا يفسر لنا هذا الكم الهائل من الأحداث والانجازات التى وقعت في تلك الفترة القصيرة
وكان من اسباب اسراع الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالخروج الى غطفان هو أن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد سمع باجتماع قبيلتين من غطفان وهي بني أنمار أو بني ثعلبة وبني مُحَارِب، وأنهم يريدون الإغارة على المدينة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
خروج الرَسُولُ الى "غطفان" في سبعمائة مقاتل
خرج الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنفسه الى ديار "غطفان" في جيش قوامه سبعمائة مقاتل، وهو عدد قليل نسبيًا في مواجهة "غطفان" لأن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يريد ترك المدينة بلا جيش يحميها
ولم يكن مع المسلمين سوي ستين أو سبعين بعيرًا، فكان كل ستة من الصحابة يتناوبون ركوب البعير الواحد، وسار الرسول مسافة كبيرة بجيشه في عمق الصحراء، وتوغل حتى بلغ ديار غطفان، وهي إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة حوالى 300 كم من المدينة المنورة
وهذه المسافة كبيرة جدًّا، والصحابة يسيرون على أقدامهم، حتى بليت نعالهم، وتلفت أقدامهم، وسقطت أظافرهم، وأخذوا يلفون الخرق وقطع القماش على أقدامهم فسميت هذه الغزوة لذلك بذات الرقاع
وكان هذا يبين لنا مدي التضحية والبذل والعطاء الذي كان عليه هذا الجيل الفذ الصحابة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فرار "غطفان" من المسلمين
وعندما وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان، كانت الظروف كلها في صالح غطفان، فأعدادهم كبيرة، والمعركة في ديارهم، وفي الطرق والدروب التى يعرفونها جيدًا، والمسلمون أعدادهم قليلة، وهم قادمون من مسافة بعيدة، ومرهقون وقد تلفت أقدامهم من السير في الصحراء
ومع كل هذه الظروف التى في صالح غطفان، فان غطفان اصابها الرعب وانسحبت من أمام المسلمين، ولم تكن هذه المرة الأولى التى ينسحب فيها أعداء المسلمين خوفًا منهم، وكان ذلك توفيقًا من الله تعالى، يقول الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ" ولكن ذلك لم يتحقق للمسلمين هكذا، ولكنه تحقق للمسلمين بعد أن أظهروا شجاعة مذهلة، وبذلوا تضحيات غالية، في بدر وفي الأحزاب وفي خيبر، بل وفي الجزء الأول من أحد،وغير ذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
عباد بن بشر.. الخاشع لربه
عاد المسلمون الى المدينة دون قتال، وفي أثناء عودة جيش المسلمين الى المدينة، وقع موقف عجيب، والقصة رواها أبو داود عن جابر أن الجيش نزل في أحد المنازل للراحة والنوم، وعين الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلين للحراسة، وهما: عباد بن بشر من الأنصار، وعمار بن ياسر من المهاجرين، فقسما الليل بينهما، فكانت نوبة "عباد بن بشر" فقام "عباد بن بشر" يصلى بالليل، ونام الى جواره "عمار بن ياسر" فجاء أحد المشركين من "غطفان" ورماه بسهم فأصاب "عباد" في كتفه، فنزع "عباد بن بشر" السهم وأكمل صلاته، ثم رماه المشرك بسهم آخر فنزعه "عباد" وأكمل صلاته، ثم رماه بسهم ثالث فنزعه "عباد" وتوقف عن القراءة وركع وسجد وسلم ثم أيقظ "عمار بن ياسر" ففر الرجل المشرك عندما رأي "عمار"
فلما وجد "عمار بن ياسر" السهام الثلاثة والدماء في كل مكان قال لعباد: أفلا أنبأتني عندما رميت؟ فقال له عباد: كنتُ في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها
وفي رواية ابن إسحاق، قال عباد: "وايم الله، لولا أن أضيِّع ثغرًا أمرني رسول الله بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها"
يعنى لولا خوفه من أن يموت فيضيع ما أمره به الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الحراسة، لفضل الموت عن قطع قرائته
هذه القصة العجيبة كنا نذكرها دائمًا ونحن نتحدث عن قصص الخاشعين في الصلاة، أما السورة التى كان يقرؤها "عباد" فهي سورة "الكهف" فانظر كم مرة قرأت أنت سورة الكهف، وقارن بين قرائتك لها وقراءة "عباد بن بشر" وانفعاله بها وحبه لقرائتها
كان عمر "عباد بن بشر" حين حدث هذا الموقف واحد وأربعين سنة، و"عباد بن بشر" من الأنصار كما ذكرنا، وأحد الذين اشتركوا في بدر، وعاش بعد هذاالموقف، ومات شهيدًا بعد ذلك في معركة اليمامة سنة 11 هـ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الرسول يوجه السرايا إلى أرض غطفان
وعاد الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى المدينة دون قتال كما ذكرنا، ثم قام الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بقية العام السابع من الهجرة بإرسال ست سرايا متتالية الى قبائل غطفان، ولم تجتريء قبائل غطفان بعد غزوة "ذات الرقاع" وبعد هذه السرايا أن ترفع رأسها مرة أخري أمام المسلمين، بل استكانت شيئًا فشيئًا حتى استسلمت، ثم أسلمت واحدة بعد الأخري
قام الرَسُولُ في بقية العام السابع بإرسال ست سرايا الى قبائل غطفان
|