أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجُزْءُ السادس عشر: الأحداث من "خيبر" الى "مؤتة"
الفصل السادس بعد المائتين
*********************************
عمرة القضاء
*********************************
*********************************
تحدثنا في فصول سابقة عن أهم الأحداث في السنة السابعة من الهجرة، وهي غزوة "ذات الرقاع" ثم ست سرايا موجهة الى مناطق غطفان
وفي نهاية السنة السابعة من الهجرة وقع حدث من أهم الأحداث وهو "عمرة القضاء"
فما هي قصة "عمرة القضاء" ؟
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
سبب وقصة "عمرة القضاء"
خرج الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شهر "ذي القعدة" من السنة السادسة لأداء العمرة، وانتهي الأمر بعقد "صلح الحديبية" مع قريش، وكان أحد بنود هذا الصلح هو ألا يدخل المسلمون مكة لأداء العمرة هذا العام، على أن يعودوا في العام المقبل لأداء العمرة، ويدخلون مكة بسيوفهم فقط، والسيوف في القرب، ويظلون في مكة ثلاثة ايام فقط، ثم يخرجوا بعد ذلك، وتترك قريش لهم مكة هذه الأيام الثلاثة
وكان هذا البند من بنود الصلح هو أهم بند عند قريش، لأن دخول المسلمين لأداء العمرة كان –من وجهة نظرهم- سيهز هيبتهم، ويحبط كبريائهم في الجزيرة العربية، بينما كان هذا البند في صالح المسلمين، لأنهم وان عادوا عامهم هذا فهم سيأتون العام القابل، وتترك لهم قريش مكة، فيضمن المسلمون ألا يحدث احتكاك مع قريش، وبذلك يؤدي المسلمين عمرتهم في هدوء وبدون منغصات
ومر عام على "صلح الحديبية" وفي "ذي القعدة" من السنة السابعة، اعلن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه سيخرج لأداء العمرة، وأمر الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا يتخلف عنها أحد شهد الحديبية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
خروج الرسول بسلاح الحرب الكامل وخوف قريش من ذلك
وخرج مع الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 2000 من الصحابة، غير النساء والصبيان، وساقوا ستون بدنة وقلدها، وأحرم المسلمون من "ذي الحلفية" وهي "أبيار على" وبدؤا التلبية، واتجهوا الى "مكة" وظلوا طوال الطريق من المدينة الى مكة يلبون، لمدة عشرة أيام كاملة، هي المسافة من المدينة الى مكة
وخرج المسلمون بالسلاح الكامل، وهي السيوف والرماح والسهام والدروع وغير ذلك، كما خرجوا بمائة فارس، ولم يخرجوا بالسيوف فقط، وقد كان الإتفاق ألا يدخل المسلمون الى مكة الا بالسيوف فقط، وعلمت قريش بذلك ففزعت واعتقدت أن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيغزوهم، وقالوا: ما أحدثنا حدثا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه ؟
وأسرعت قريش وأرسلت "مكرز بن حفص" في نفر من قريش وقالوا:
- والله يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر
فأخبرهم الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لن يدخل مكة بالسلاح، وأنه سيترك هذا السلاح خارج مكة
وبالفعل عندما اقترب الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة، وفي مكان اسمه "يأجج" ترك السلاح باستثناء السيوف فقط، وترك لحراسة السلاح مائتان من الصحابة، بقيادة "محمد بن مسلمة" وبعد أن انتهي من العمرة تبادل هؤلاء الحراس أماكنهم مع مجموعة من المسلمين الذين أدوا العمرة
وكان الهدف المعلن من اصطحاب السلاح هو الخوف من غدر قريش، ولكن كان هناك هدف آخر وهو اظهار قوة المسلمين، والقاء الرهبة والخوف في قلوب قريش، كما تقوم الدول الآن باقامة عروض عسكرية، الهدف منها هو اظهار قوتها، والقاء الخوف والرهبة في قلوب أعدائها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
دخول الرسول مكة وأداء المسلمين مناسك العمرة
وكان الإتفاق في الحديبية هو أن تترك قريش للمسلمين مكة لمدة ثلاثة أيام، وهي مدة بقاء المسلمين في مكة، وقلنا أن هذا البند فيه حط لكبرياء قريش أكثر مما لو كانت قد سمحت لهم بأداء العمرة عندما جاءوا أول مرة في العام السادس، لأن قريش ستترك بيوتها وتخرج من مكة، وتبيت في شعاب الجبال المحيطة بمكة، وهذا لم يحدث في تاريخ قريش من قبل
هكذا خرج أهل مكة جميعًا الى جبال مكة، ودخل الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة راكبًا على ناقته "القصواء" وحوله الصحابة وهم يلبون في مشهد مهيب رائع
دخل الرَسُولُ مكة راكبًا على ناقته وحوله الصحابة وهم يلبون في مشهد رائع
وصدق الله تعالى في سورة الفتح التى نزلت قبل ذلك التاريخ بعام واحد ((لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا))
وكان الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حريصُا أن يظهر قوة المسلمين أمام قريش، فقال الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لصحابته
- رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَاهُمُ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً
وأمر الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صحابته بالرَّمَل، وهو الهرولة في الثلاثة أشواط الأولى من الطواف، ولم يأمرهم بالرمل في بقية الأشواط شفقة عليهم
وأمرهم بالإضطباع، وهو أن يجعلوا الرداء أسفل المنكب الأيمن، وتبقي الكتف اليمنى مكشوفة
هيئة الإضطباع
وكان الهدف هو اظهار قوة المسلمين، كما يفعل بعض الشباب الآن عندما يقومون بارتداء تي شيرتات تظهر عضلاتهم، فحتى لو لم يكونوا أقوياء فشعورهم بالقوة يعطيهم ميزة، ولو كان له عدو فهو يعلم هذا، وذلك يخيفه
وبقي الرمل والإضطباع من سنن الطواف المستحبة
وقبل دخول الصحابة مكة أشاع أهل مكة أن المسلمين قد وهنتهم حُمَّى المدينة، فلما رأى المشركون المسلمين وهم يطوفون بهذه السرعة، وقد كشفوا عضلاتهم، قالوا: "هؤلاء الذين زعمتم أن الحُمَّى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا" وترك ذلك أثرًا كبيرًا في المشركين.
وكان الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كذلك يصلى بالمسلمين جماعة في الحرم، وكان بلال يصعد على الكعبة ويؤذن، وهزت كل هذه المشاهد قريش، حتى أن "صفوان بن أمية" قال "الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا" وغطي "سهيل بن عمرو" وجهه حتى لا يري هذه المشاهد
وختم الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الصورة البهية بزواجه من السيدة "ميمونة بنت الحارث" وكأنه يرسل رسالة الى قريش أنه يتصرف وكأنه في بلده
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الزواج من السيدة "ميمونة بنت الحارث"
وقصة زواج الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من السيدة ميمونة، أن السيدة "ميمونة بنت الحارث" وكان اسمها في ذلك الوقت "برة بنت الحارث" كانت ارملة مات عنها زوجها، وعمرها ستة وعشرون عامًا، وأرادت أن تتزوج من الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتحدثت الى أختها "أم الفضل" زوج "العباس" عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتحدث العباس بذلك الى الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوافق الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وعدما علمت السيدة "برة" بموافقة الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الزواج منها كانت على بعير لها ففرحت فرحًا شديدًا وقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله، يعنى هي تريد أن تتزوجه بلا صداق، ونزل في ذلك قول الله تعالى ((وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ))
والآية شهادة لها –رضى الله عنها- بالإيمان
وقوله تعالى ((إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ)) يعنى بغير صداق
وقوله ((خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) يعنى هذه خصوصية فقط للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس لأحد من أمته أن يتزوج امرأة بغير ولى ولا صداق
وهناك الكثير من النساء عرضن الزواج على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يقبل الا السيدة ميمونة فقط
وسماها الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ميمونة، لأن الزواج وقع في مناسبة ميمونة أي مباركة وهي العمرة، وكانت السيدة "ميمونة" هل آخر من تزوجها الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
و"ميمونة بنت الحارث" من قبيلة عزيزة قوية، وهي قبيلة "بنى هلال" وقد تزوجها الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تأليفًا لقلوب قبيلتها، بل تأليفًا لقلوب قريش أيضًا لأنها كانت ترتبط بصلات نسب مع كثير من سادة وأشراف قريش، وقد ذكرنا من قبل أن الزواج بين البطون والقبائل المختلفة كانت وسيلة لتأليف القلوب والتقارب بين البطون والقبائل المختلفة، وبالفعل بعد ذلك الزواج دخلت قبيلة "بنى هلال" في الإسلام تباعًا، وأسلم بعض أقاربها مثل ابن أختها "خالد بن الوليد"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قريش تطلب من الرسول ترك مكة
وانقضت الأيام الثلاثة التى اتفقت قريش مع الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يؤدي المسلمين فيها العمرة ثم يخرجوا من مكة، فجاء الى الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفدًا من قريش يطلبون منه الخروج
فرد عليهم الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسالمًا:
- وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي، فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَصَنَعْنَا لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ
فردوا في جفاء :
- لا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِكَ فَاخْرُجْ من أرضنا
فغضب "سعد بن عبادة" وقال:
- ليست ارضك ولا أرض آبائك، ولا يخرج منها الا طائعًا راضيًا
فتبسم رسول الله، وقال:
- يا سعد لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
عودة الرسول الى المدينة ونتائج عمرة القضاء
وترك الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة وقد ظهرت عزة المسلمين وقوتهم أمام قريش وأمام كل العرب، وارتفعت أسهم المسلمين الى السماء، حتى ان البعض قال أن "عمرة القضاء" كانت البذرة أو تهيئة الأرض لفتح مكة بعد هذا التاريخ بعشرة شهور فقط
وعرفت هذه العمرة بعمرة القضاء، لأن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاضى عليها قريشًا، يعنى صالح عليها قريشًا، وأطلق عليها أيضُا: عمرة الصلح، وعمرة القصاص، وعمرة القضية، وهذه كلها أسماء لنفس العمرة في العام السابع من الهجرة.
وقد اعتمر الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربع مرات، كانت هذه واحدة منها
وبعد هذه العمرة المباركة واصل الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سياسة الضغط على "غطفان" وأرسل سريتين الى مناطق "غطفان" من جديد: واحدة في ذي الحجة 7هـ، وواحدة في صفر 8هـ،
ما الذي حدث بعد عمرة القضاء، هذا ما سنتناوله في الفصول القادمة ان شاء الله تعالى
|