أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجُزْءُ السادس عشر: الأحداث من "خيبر" الى "مؤتة"
الفصل الثاني العاشر بعد المائتين
*********************************
اسلام عمرو بن العاص
*********************************
*********************************
قلنا في الحلقة السابقة أن أول حدث في شهر "صفر" في السنة الثامنة من الهجرة، هو اسلام ثلاثة من عمالقة قريش وهم: "خالد بن الوليد" فارس قريش و"عمرو بن العاص" وهو من أحكم وأدهي العرب و"عثمان بن طلحة" من وجوه أهل مكة
وهذا الحدث من أعظم الأحداث، ونصر من أكبر انتصارات الإسلام، ونقطة فارقة في التاريخ الإسلامي، وقد أسلم الثلاثة ليس في شهر واحد فقط، ولكن في يوم واحد، وعندما أسلموا قال الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "رَمَتْكُمْ مَكَّةُ بِأَفْلاَذِ كَبِدِهَا"
وتناولنا في الحلقة السابقة قصة اسلام "خالد بن الوليد" ونتحدث في هذا الفصل عن اسلام "عمرو بن العاص"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا تأخر اسلام عمرو بن العاص
مثل "خالد بن الوليد" ظل "عمرو بن العاص" عشرون عامًا منذ البعثة وحتى بداية السنة الثامنة من الهجرة رافضًا ومعاديًا للإسلام، وكان سبب رفضه للإسلام طوال هذه الفترة، أنه من بيت يكره الإسلام، فأبوه "العاص بن وائل" كان من اشد أعداء الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان شديد الإيذاء للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مكة قبل هجرة الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الذي كان يقول عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد موت ولده أنه "أبتر" فنزل فيه قول الله تعالى "ان شانئك هو الأبتر" ومن شدة ايذائه للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا عليه الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "اللهم سلط عليه شوكة من أشواك الأرض" فدخلت شوكة في قدمه، فتورمت قدمه، ولم يستطع أن يتحرك وأصبح طريح الفراش، وذهب ابنه "عمرو بن العاص" الى "الطائف" ليأتي بطبيب، ولكنه مات قبل أن يصل اليه
اذن "عمرو بن العاص" من بيت يكره الإسلام كراهية شديدة جدًا، وسبب آخر لتأخر اسلام "عمرو بن العاص" وهو أن له مكانة كبيرة في قريش، بل وفي الجزيرة كلها، ولذلك فهو يخشى على ضياع هذه المكانة اذا اتبع الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودخل في الإسلام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
"عمرو بن العاص" يقرر الهجرة الى الحبشة كراهية للإسلام
ولكن بعد غزوة الأحزاب، رأي "عمرو بن العاص" بحنكته السياسية أن الأمور ستتجه بعد ذلك لصالح المسلمين، لأن كل أعداء المسلمين تحالفوا ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، وهي نفس النظرة التى عبر عنها الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند انصراف الأحزاب فقال "الآن نغزوهم ولا يغزونا"
ولكن مع ذلك لم يكن "عمرو بن العاص" متقبلًا لفكرة أن يدخل في الإسلام، وكان شديد الكراهية للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخذ قرارًا غريبًا وهو أن يترك مكة ويهاجر الى الحبشة
والقصة يرويها "عمرو بن العاص" نفسه، والقصة في البخاري ومسلم وغيرهما
يقول "عمرو بن العاص" أنه تحدث الى رجال من قريش "كانوا يرون رأيي" يعنى مجموعة من رجال قريش كانوا يقتنعون بأي شيء يقوله، ويسمعون كلامه وينفذون ما يقوله، فقال لهم:
- انى أري أمر محمد يعلوا علواً منكرًا، وأني أري ان نلحق بالنجاشي، فأن نكون تحت يديه أحب الينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن مَن قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خيرٌ
وكان "عمرو بن العاص" صديقًا للنجاشي
وانظر الى مدي كراهية "عمرو بن العاص" للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "عمرو بن العاص" نفسه كان يقول: ولم يكن أحد أشد كراهية لرسول الله منى
يقول عمرو بن العاص"وإن ظهر قومنا فنحن مَن قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خيرٌ" أي لو انتصرت قريش على المسلمين فيمكن أن نعود الى مكة، ومكانتنا محفظة في مكة
فقال أصحابه: إن هذا الرأي .
فقال لهم عمرو: فاجمعوا له ما نهدي اليه
يقول "عمرو" وكان أحب ما يهدي اليه من أرض العرب هو الأدم، أي الجلود، فجمعوا له جلودًا كثيرة، ثم توجهوا الى الحبشة
قال عمرو: انى أري أمر محمد يعلوا علواً منكرًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قصة اسلام "عمرو بن العاص" على يد النجاشي
فلما ذهب "عمرو بن العاص" الى النجاشي" وجد عنده "عمرو بن أمية الضمري" وكان الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أرسل "عمرو بن أمية" الى النجاشي يطلب منه أن يرسل "جعفر بن أبي طالب" ومن بقي من المسلمين في الحبشة الى المدينة
ففكر "عمرو بن العاص" أن يدخل الى النجاشي ويطلب منه أن يسلمه "عمرو بن أمية الضمري" ويقتله، وبذلك يكون قد صنع شيئًا لقريش يرفع بها مكانته في مكة، مع أن "عمرو بن العاص" حاول قديما -منذ خمسة عشر عامًا- في السنة الخامسة من البعثة أن يسلم له النجاشي المسلمون الذين هاجروا الى الحبشة، ولكن النجاشي رفض رفضًا قاطعًا
يقول "عمرو بن العاص" فدخلت عليه، وسجدت له كما كنت أصنع، فقال:
- مرحبًا بصديقي، أهديث الىَّ من بلادك شيئًا
قال عمرو:
- نعم أيها الملك، قد أهديت لك أُدُماً كثيراً.
ثم قدمه اليه فأعجبه
ثم قال:
- أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وأعزتنا
قال عمرو: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فوددت لو انشقت لي الأرض فدخلت فيها خوفا منه .
ثم قلت له:
- أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.
فقال:
- أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله ؟!
وكان اهل الكتاب يطلقون على "جبريل" الناموس الأكبر، ولذلك قال ورقة بن نوفل للسيدة خديجة
"إنَّه لَيَأْتِيَه النّامُوْسُ الأكبر الذي كانَ يأتي موسى"
قال عمرو:
- أيها الملك ، أكذاك هو ؟
قال:
- ويحك يا عمرو، أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده .
ويحك يا عمرو، أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق
فألقي الله تعالى الإسلام في قلب "عمرو بن العاص" ولا شك أن ذلك نتيجة تراكمات ومشاهدات واستنتاجات كثيرة في حياة "عمرو بنالعاص"
قال عمرو للنجاشي:
- أتبايعني له على الإسلام ؟
قال:
- نعم .
فبسط النجاشي يده، فبايعه "عمرو بن العاص" على الإسلام.
ولذلك من الألغاز التى تقال كثيرًا في المسابقات: من هو الصحابي الذي أسلم على يد تابعي
ثم خرج "عمرو بن العاص" على أصحابه، ولم يخبرهم بشيء مما حدث، ولم يخبرهم باسلامه، وبقي في مكة كاتمًا اسلامه بضعة شهور حتى أعد نفسه للهجرة، ثم خرج من مكة سرًا واتجه الى المدينة ليعلن اسلامه بين يدي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خرج "عمرو بن العاص" من مكة سرًا واتجه الى المدينة ليعلن اسلامه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
في الطريق الى المدينة وجد "خالد بن الوليد" قادمًا من مكة متوجهًا الى المدينة، فقال له عمرو:
- أين يا أبا سليمان؟
قال خالد بن الوليد:
- والله لقد استَقامَ المَنْسِمُ ، وان الرجل لنبي، أذهب والله أُسْلِمُ فحتى متى؟
ومعنى "استَقامَ المَنْسِمُ" يعنى اتضح الأمر ولم يعد فيه لبس وشك
قال عمرو:
- فأنا والله ما جئت إلا للإسلام .
فقدما على الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتقدم "خالد بن الوليد" فأسلم وبايع، ثم تقدم "عمرو بن العاص" وقال للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- ابسط يمينك فأبايعك
فبسط الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده، فقبض عمرو يده، فقال له الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- مالك يا عمرو ؟
قال عمرو:
- أردت أن أشترط
قال الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- تشترط ماذا ؟
قال عمرو:
- أشترط أن يغفر لى
لأن "عمرو بن العاص" له تاريخ طويل من العداء للإسلام
فقال له الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
- أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وعندما احتضر "عمرو بن العاص" حول وجهه الى الجدار وأخذ يبكي بكاءًا مرًا، فجعل ابنه يقول له: يا أبتاه ،
- أما بشرك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكذا وكذا
فأقبل عليه "عمرو بن العاص" بوجهه، وقال:
- إني قد كنت على أطباق ثلاث :
قد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مني ، ولا أحب إلي الا أن أستمكن منه فأقتله، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار .
فلما جعل الله الإسلام في قلب، ما كان أحد أحب إلي من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه ، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كان اسلام "عمرو بن العاص" اضافة كبيرة الى المسلمين، وقد كان "من أحكم وأدهي العرب"
وهو الذي فتح مصر وفلسطين
وقال عنه الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلمات لم يقلها لأحد غيره: "أَسْلَمَ النَّاسُ، وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ
الْعَاص".
|