أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجُزْءُ السابع عشر: معركة "مؤتة""
الفصل السابع العاشر بعد المائتين
*********************************
معركة مؤتة- الجزء الأول
الخروج الى مؤتة
*********************************
*********************************
سبب معركة "مؤتة"
في شهر "جمادي الآخرة" من السنة الثامنة من الهجرة كانت معركة "مؤتة" وهي أول مواجهة للمسلمين مع الإمبراطورية الرومانية، وهي اكبر دولة في العالم في ذلك الوقت
وكان سبب هذه المعركة أن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل أحد الصحابة وهو "الحارث بن عمير" برسالة الى أمير بُصْرَى -وهي المنطقة في أقصى جنوب سوريا الآن- يدعوه فيها إلى الإسلام
ولكن اعترض طريقه "شرحبيل بن عمرو" وهو ملك الغساسنة، ومملكة الغساسنة هي مملكة تدين بالنصرانية كانت داخل وموالية للإمبراطورية الرومانية، وقد سقطت بعد ذلك وانتهت في معركة اليرموك، في الفتح الإسلامي للشام، وقبض "شرحبيل" على "الحارث بن عمير" وقال له:
- أين تريد ؟
قال:
- الشام
قال:
- لعلك أحد رسل محمد ؟
قال:
- نعم أنا رسول رسول الله
فأمر به فأوثق وقتل صلبًا
وكان العرف في العالم كله في ذلك الوقت وحتى الآن أن الرسل لا تقتل، واذا حدث وقتل رسول دولة، فان ذلك يمثل اهانة كبيرة واعلان حرب على تلك الدولة
ليس هذا فحسب بل بدأت الدولة الرومانية، ومعها القبائل العربية الموالية لها في شمال الجزيرة وهي قبائل تدين بالنصرانية، في تعقب وقتل كل من يسلم، حتى قتل والي "مَعَان" بالأردن؛ لأنه أعلن إسلامه، وكان قد أسلم دون أن يرسل اليه الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال "الحارث بن عمير" نعم أنا رسول رسول الله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكان رد الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه التصرفات هي ضرورة ارسال جيش الى هذه المنطقة، والحرب في الإسلام تكون بهدف الدفاع عن النفس ضد أي اعتداء، ولتأمين حركة الدعوة الإسلامية، ومنح الناس حقهم في الاعتقاد، وحقهم في اختيار الدين الذي يريدونه
سبب آخر جعل الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسرع بارسال هذا الجيش هو أنه كان واضحًا أن المواجهة مع الإمبراطورية الرومانية العملاقة، ومع القبائل القوية الموالية لها في شمال الجزيرة أمر حتمي، فأراد الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تكون هذه المواجهة في حياته هو، وألا يتركها لمن يأتي بعده، حتى يكسر حاجز الخوف من مواجهة الإمبراطورية الرومانية في الغرب أو الفارسية في الشرق، أو أي دولة مهما بلغت قوتها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يولى ثلاثة أمراء للجيش لأول وآخر مرة
قام الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باعداد جيش قوي قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش اسلامي حتى ذلك الوقت، وجعل على رأس الجيش "زيد بن حارثة" وقد قلنا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان قد أعد "زيد بن حارثة" اعدادًا خاصًا، حيث قاد سبع سرايا قبل هذه السرية، وهو أكثر قائد أرسله الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سرايا، ومن هذه السرايا سرية الى "حسمي" في شمال الجزيرة في السنة السادسة من الهجرة، أي في مكان قريب من "مؤتة"
تقول السيدة عائشة ((ما بعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيد بن حارثة في جيش قط الا أمره عليهم، ولو بقي حيا بعد الرسول لاستخلفه))
وكان زيد رجلا قصيرا، أسمرا، أفطس الأنف، وكان عمره في ذلك الوقت 43 عام
كذلك لم يجعل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه السرية أميرًا واحدًا، وإنما عيَّن ثلاثة من الأمراء، إن قتل أحدهم تولى الآخر من بعده، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التى يولي فيها الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاثة من الأمراء على سرية واحدة، وهذا يعنى أن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوقع حربًا ضروسًا في هذه المعركة، وهذا يدل على حنكته ورؤيته الثاقبة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وتوقف الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند هذا العدد ولم يعين رابعًا حتى لا يحبط الجيش
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا لم يخرج الرسول بنفسه الى مؤتة
ولم يخرج الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنفسه في هذه المعركة، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يخرج في جميع الغزوات حتى لا يشق على أمته، لأنه لو خرج في كل غزوة لخرج كل المسلمين معه، وهذا أمر لا يتحمله كل الناس، وهذا السبب عبر عنه الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنفسه
وهناك سبب آخر وهو أن يتعود المسلمون على الاعتماد على أنفسهم، ويستطيع تربية وأعداد صف من القادة ينهضون بالرسالة بعده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وخرج الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنفسه لتوديع الجيش، وأوصى الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجيش وقال:
"انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسـُولِ اللَّهِ، وَلاَ تَقْتُلُوا شــَيْخًا فَانِيًا، وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا، وَلاَ امْرَأَةً، وَلاَ تَمْثُلُوا، وَلاَ تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"
وانطلق الجيش الى "مؤتة" وكان الطريق من "المدينة" الى "مؤتة" يبلغ ألف ومائة كيلو متر في صحراء قاحلة، وهي اكبر مسافة سارها جيش مسلم حتى ذلك الوقت، وكان ذلك أيضًا في شهر أغسطس أي في جو شديد الحرارة
وانطلق الجيش الى مؤتة
وكان الطريق يبلغ ألف ومائة كيلو متر في صحراء قاحلة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الإمبراطورية الرومانية تلقى بثقلها في المعركة
ووصل الجيش بعد أسبوعين الى منطقة "معان" في الأردن، وكان الهدف –كما ذكرنا- هو قتال "شرحبيل بن عمرو" ملك غسان الذي قتل "الحارث بن عمير" رسولَ رسولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ولكن في هذا المكان نقلت الاستخبارات الإسلامية الى "زيد بن حارثة" مفاجأة غير متوقعة، وهي أن الدولة الرومانية قد قررت الإشتراك في المعركة بنفسها، بل وألقت بثقلها في المعركة، وأرسلت جيشًا قوامه مائة ألف مقاتل
ليس هذا فحسب بل أمر "هرقل" بتجمع العرب النصاري الموالين للروم، وهي قبائل: لَخْم وجُذَام وبَلْقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي، وغيرها فتجمعوا وأعدوا جيشًا آخر قوامه مائة ألف أخري، ليصل مجموع جيش العدو الى مائتى ألف مقتال، منهم خمسون ألف فارس، سيقاتل ثلاثة آلاف مسلم
والعجيب أن يعد الروم والعرب الموالين لهم كل هذا الجيش لقتال جيش قوامه فقط ثلاثة آلاف مقاتل، وهذا يدل على مدي الرعب الذي كان فيه هؤلاء الروم وأتباعهم من المسلمين، والهيبة العظيمة التى استطاع الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحقيقها للدولة الإسلامية
ألقت الدولة الرومانية بثقلها في المعركة
ووصل مجموع جيش العدو الى مائتى ألف مقتال
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
رد فعل الجيش الإسلامي
ازاء هذا الوضع الخطير جمع "زيد بن حارثة" الصحابة، ليعرض عليهم مستجدات الموقف، واستشارهم كما فعل الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بدر وفي أحد وفي الخندق، وكانت هناك ثلاثة آراء مختلفة:
الرأي الأول: كان يرى أن يرسل المسلمون رسالة إلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة ويخبرونه بالوضع ويطلبون رأيه، فإما أن يأمرهم بالقتال أو الإنسحاب أو يرسل اليهم مدد
وقد تم رفض هذا الرأي لأن المسافة بين مَعَان والمدينة كبيرة –كما ذكرنا- وهي تستغرق ذهابًا وايابًا شهرًا كاملاً ولا شك أن قوات العدو لن تصبر على المسلمين طوال هذه المدة، وستبادر بمهاجمة المسلمين قبل أن يصل اليهم رد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الرأي الثاني: كان يري أن ينسحب الجيش ويعود الى المدينة، لأن الجيش جاء لمحاربة مملكة "غسان" وعقاب "شرحبيل بن عمرو" الذي قتل "الحارث بن عمير" ولذلك أتي بجيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، ولم يأت لقتال تحالف بين الإمبراطورية الرومانية العملاقة وكل القبائل العربية المتحالفة معها
ودخول معركة كهذه معناه اهلاك الجيش الذي هو كل عماد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ولا يأمن اذا حدث هذا أن يجتاح أعداء الدولة الإسلامية من قريش وغطفان وغيرهم المدينة
وقال أصحاب ذلك الرأي لزيد بن حارثة:
- قد وطئت البلاد، وأخفت أهلها، فانصرف؛ فإنه لا يعدل العافية شيء
الرأي الثالث: كان يرى المواجهة والدخول في الحرب، لأنهم أولًا خرجوا يطلبون الشهادة، ولأنهم لا يقاتلون الناس بالعدد ولا بالكثرة، ووقف عبد الله بن رواحة، الأمير الثالث، وقال:
- يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشـهادةَ، وما نقاتل الناس بعدد ولا بقوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهورٌ وإما شهادة
وكانت الأغلبية في الجيش مع هذا الرأي الأخير، وهو الدخول في الحرب، ولا شك أن هذا القرار كان هو أجرأ قرار عسكري على مر التاريخ كله
يا قوم إنما هي إحدى الحسنيين؛
إما ظهورٌ وإما شهادة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
انطلاق المسلمون الى الشمال، وانحيازهم الى قرية "مؤتة"
بعد أن أخذ الجيش قرار الحرب، انطلق المسلمون في اتجاه الشمال، في اتجاه جيوش العدو، بعد أن اقاموا في "معان" يومين، بينما اتجه الروم الى الجنوب، وتراءا الجيشان عند قرية يطلق عليه "َشَارِف" ولكن وجد المسلمون أن هذا المكان غير مناسب للقتال بالنسبة لهم فانحازوا الى قرية يطلق عليها "مؤتة" وهي مدينة موجودة الآن في وسط الأردن، وأقاموا معسكرهم هناك
وكان سبب اختيار هذه القرية هو استغلال مزارع القرية وبيوتها لتكون حماية طبيعية للجيش، فلا يتمكن الرومان من تطويق الجيش، وتكون المواجهة بنفس أعدادهم، وهي نفس خطة الرسول في بدر وفي أحد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الجيشين في المواجهة
ووصلت جيوش العدو، أمواج بشرية هائلة تنساب الى أرض المعركة، والمسلمون واقفون ثابتون كالجبال
وكان ممن حضر المعركة "أبو هريرة" يقول أبو هريرة:
- شَهِدْتُ مُؤْتَةَ، فَلَمَّا رَأَيْنَا الْمُشْرِكِينَ، رَأَيْنَا مَا لا قِبَلَ لَنَا بِهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَالسِّلاحِ، وَالْكُرَاعِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْحَرِيرِ، وَالذَّهَبِ، فَبَرَقَ بَصَرِي، فَقَالَ لِي ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا لَكَ، كَأَنَّكَ تَرَى جُمُوعًا كَثِيرَةً ؟ قُلْتُ : نَعَمْ، قَالَ: لَمْ تَشْهَدْنَا بِبَدْرٍ إِنَّا لَمْ نُنْصَرْ بِالْكَثْرَةِ .
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ تَشْهَدْنَا بِبَدْرٍ إِنَّا لَمْ نُنْصَرْ بِالْكَثْرَةِ .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وجاءت ساعة الصفر، وأعطي "زيد بن حارثة" اشارة البدء الى أصحابه، وبدء القتال
ما الذي حدث بعد ذلك ؟
هذا سيكون حديثنا في الفصل القادم
*********************************
لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا
*********************************
|