أسْرَار السيرة الشَرِيفَة- منهج حياة
الجزء الرابع والعشرون:
من أخلاق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
*********************************
الفصل الواحد السبعون بعد المائتين
خلق التواضع
عند الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
*********************************
*********************************
يعتقد كثير من الناس أنها اذا تواضعت فانها تفقد بذلك هيبتها، وهذا غير صحيح، يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من حديث أبي هريرة "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ"
==========
وقد كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على علو قدره، أشد الناس تواضعًا، فالرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو سيد الأنبياء والرسل، وخير الخلق، ومع ذلك فقد كان أشد الناس تواضعًا
وقد خيره الله تعالى بين أن يكون نبيًا ملكًا مثل "داود" و"سليمان" وبين أن يكون نبيًا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًا عبدًا
==========
ولم يكن خلق التواضع في رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر متكلفًا، ولكنه خلق في سجيته وطبيعته، وقد رباه الله تعالى على ذلك فعمل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في رعي الأغنام منذ كان عمره ثمانية أعوام، والعمل في رعي الأغنام يطبع شخصية صاحبه بصفات ايجابية كثيرة منها "التواضع" لأن طبيعة عمل الراعي هي خدمة الغنم، والإشراف على ولادتها، وحراستها، وينام قريبًا منها، وربما يصيبه رذاذ من بولها، أو شيء من روثها، فلا يتضجر من هذا، وبمرور الوقت يرتكز في نفسه خلق التواضع
==========
وكان من تواضعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يجلس بين أصحابه مختلطًا بهم، حتى اذا جاء الغريب لم يعرفه من بينهم
من ذلك مثلًا عندما جاء "ضمام بن ثعلبة" الى المدينة، ودخل المسجد، قال "أيكم محمد" ؟ فقالوا له: هذا الرجل الأبيض المتكيء، ومعنى متكيء يعنى جالسًا مسندًا ظهره أو جنبه الى شيء
وهكذا كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجلس مختلطًا بأصحابه ليس له مقعد مخصص مثلًا، أو أي شيء يميز أن هذا هو رئيس الدولة، الآن في الأثاث المكتبي يوجد "مكتب مدير" و"كرسي مدير" وغرفة المدير، ولا يحدث أبدًا أن يجلس المدير على نفس المكتب أو نفس الكرسي الذي يجلس عليه الموظفون
==========
وكان الرسول من تواضعه يمنع أصحابه من القيام له
عن أبي أمامه قال: خرج علينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متكئاً على عصاً، فقمنا له، فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظِّم بعضهم بعضاً"
رأيت يومًا أحد المديرين يصعد على سلم، وكان بعض عمال النظافة يجلسون تحت السلم، ولم يقفوا له، فقامت الدنيا ولم تقعد، وهذا أمر خطير جدًا يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "من أحب أن يتمثَّل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار"
==========
دخل رجلًا على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقام بين يديه فأخذته رعدة، وذلك من هيبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هوّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" والقديد هو اللحم المجفف، و"أنا ابن امرأة من قريش" يعنى أنا واحد منكم، وأمي كانت سيدة بسيطة
==========
وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويجيب دعوة العبد، ويزور أصحابه في بيوتهم، روي البخاري أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذهب الى "عبد الله بن عمرو بن العاص" يزوره في بيته، يقول "عبد الله بن عمرو" فألقيت له وسادة فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه
وفي الحديث أنه كان يأتي الى بيت خادمه الصغير "أنس بن مالك" ويتطلف الى أخيه الصغير، ويقول له "يا أبا عُمَيْر، ما فعل النُّغَير؟" وهو طائر صغير كان يلعب به
وكان يزور "أم أيمن" مربيته، وفي الحديث بعد وفاة الرسول يقول أبي بكر لعمر: انطلق بنا الى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله يزورها
==========
وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتفقد أصحابه، في أحد الغزوات خرج مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحد الصحابة وأسمه "جليبيب" وكان فقيرًا دميم الخلقة، فلما انتهي القتال قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟" قالوا "نفقد فلانًا وفلانًا وفلانًا" فقال "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟" "قَالُوا: لاَ. قَالَ: "لَكِنّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيباً فَاطْلُبُوهُ" فبحثوا عنه فِي الْقَتْلَىَ. فَوَجَدُوهُ إِلَىَ جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمّ قَتَلُوهُ، فَأَتَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَوَقَفَ عَلَيه فَوَضَعَهُ عَلَىَ سَاعِدَيْهِ ثم قال: هَذَا مِنّي وَأَنَا مِنْهُ. هَذَا مِنّي وَأَنَا مِنْهُ".
==========
وكان من تواضعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يقوم بخدمة أصحابه، فكان يصب لهم الماء للوضوء، وكان يقوم فيسقيهم، وكان يجمع معهم الحطب
ورأينا كيف كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يشترك مع أصحابه في حفر الخندق، في غزوة الخندق، ويحمل التراب مع أصحابه
==========
من تواضعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يستشير أصحابه، ويقول "أشيروا علىَّ أيها الناس" وكان يأخذ برأي أصحابه، وقد رأينا كيف أخذ برأي "الحباب بن المنذر" في غزوة بدر، وأخذ برأي سلمان الفارسي في غزوة الخندق، وأخذ برأي "نوفل بن معاوية" في رفع الحصار عن الطائف
==========
ومن تواضعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان اذا مر على صبيان يسلم عليهم
روي مسلم عن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قال : خرج رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فَاسْتَقْبَلَهُ ولْدَانُ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ واحِدًا واحِدًا، فَأَمَّا أَنَا فَمَسَحَ خَدِّي، فَوَجَدْتُ بِيَدِهِ بَرْدًا، ورِيحًا، كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُونَةِ عَطَّارٍ
==========
من تواضعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه زوج السيدة "زينب بنت جحش" وهي بنت عمته، ومن سيدات بنى هاشم الى مولاه "زيد بن حارثة" والذي دخل بيوت بنى هاشم عبدًا
==========
من تواضعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لم يتزوج بكرًا الا السيدة عائشة فقط
==========
مِن تواضعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يشارك زوجاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أعمال المنزل، وكان يخيط الثوب بنفسه، ويخصف النعل
روى البخاريُّ عن الأسود، قال: سألت عائشة: ما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت: كان يكون في مِهْنَةِ أهله -تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصَّلاة كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه
==========
وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من تواضعه يركب الحمار والبغلة، وكان يردف خلفه، وعندما دخل مكة لم يدخلها وهو ممتطيًا صهوة جواده كالقادة المنتصرين، وانما دخل بمنتهي التواضع، وهو يركب جمل، مردفًا خلفه "أسامة بن زيد" وهو يطأطأ رأسه حتى تكاد جبهته تمس راحلته
وكان أحيانًا يمشي راجلًا حافيًا
==========
وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأكل في بيت عائشة يومًا، وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متعبًا، فقالت له السيدة عائشة: كل متأكاَ يا رسول الله –جعلني الله فدائك- فإنه أهون عليك، فأصغى –صلى الله عليه وسلم- برأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض، وقال "بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد"
|