أسْرَار السيرة الشَرِيفَة- منهج حياة
الجزء الرابع والعشرون:
من أخلاق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
*********************************
الفصل السادس والسبعون بعد المائتين
خلق الحياء
عند الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
*********************************
*********************************
معنى الحياء
يقول العلماء أنك اذا نظرت الى مكارم الأخلاق، فستجد أن معظم الفضائل بين رذيلتين: فالشجاعة فضيلة بين رذيلة التهور ورذيلة الجبن، والكرم فضيلة بين رذيلة البخل ورذيلة الإسراف، والحلم فضيلة بين رذيلة الغضب، ورذيلة البرود، ولذلك قال الله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾
وكذلك فضيلة الحياء بين رذيلة الوقاحة، ورذيلة الخجل
والوقاحة رذيلة لا خلاف على ذلك، والإنسان الوقح يكون شخصية منفرة، ولكن هل الخجل رذيلة ؟
نعم الخجل رذيلة، فالإنسان الخجول لا يستطيع أن يواجه الناس، ولا أن يعبر عن رأيه، ولا أن يطالب بحقه، ويؤدي ذلك به الى الكبت والضيق، وسبب الخجل يكون هو نقص في شخصية الإنسان
هناك فرق بين الحياء والخجل
=========
الرسول حيي ولكن ليس خجولًا
ولكن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن كذلك على الإطلاق، فعندما نزل قول الله تعالى ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)) وأُمِر الله تعالى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتبليغ الرسالة لجميع قريش، وللعالم كله
صعد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على جبل الصفا، وأخذ ينادي على بطون قريش: يا بني فهر ! يا بني عدي ! يا بني فلان ! يا بني عبد مناف ! يا بني عبد المطلب !
واجتمعت كل قريش، وكان عددها في ذلك الوقت مابين خمسة وعشرون ألف الى ثلاثون الف، ثم أراد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقيم عليهم الحجة، فسألهم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ يعني لو قلت لكم الآن أن هناك جيشًا بالوادي الموجود خلف جبل الصفا الذي أقف عليه الآن، هل تصدقوني في هذا الأمر الخطير جدًا والذي لا يصدقه أي انسان ؟ فأجابوه جميعًا: نعم، ما جربنا عليك كذباً، ما جربنا عليك إلا صدقاً
فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمنتهي القوة، وبأعلى صوته: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد
فلو كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خجولًا لما استطاع أن يواجه قريش هذه المواجهة الصعبة
ومنذ ذلك الوقت والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يتوقف لحظة واحدة عن دعوة قريش علانية: في تجمعاتهم وفي الأسواق وفي بيوتهم وفي كل مكان، وبدأ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلى أمام الناس عند الكعبة، ويرفع صوته بقراءة القرآن، حتى تسمع قريش القرآن العظيم، وبدأت قريش تؤذي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واشتد الإيذاء بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالوا عليه أنه شاعر، وكاهن، ومجنون، وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يتوقف لحظة واحدة عن دعوة قريش، ولو كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خجولًا لما استطاع أن يتحمل هذا
وبدء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو الناس من القبائل العربية التى تأتي الى مكة في موسم الحج أو تأتي للتجارة، ولو كان خجولًا لما استطاع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يفعل هذا
وخرج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة ليعرض عليهم الإسلام، مثل رحلة الطائف التى ذهب اليها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يكن معه الا غلامه "زيد بن حارثة" وظل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الطائف عدة أيام يدعوهم الى الإسلام، حتى جلس مع ثلاثة من زعماء الطائف وعرض عليهم الإسلام، ولكنهم رفضوا الإسلام، وأغروا به العبيد والسفهاء، فأخذوا يسبونه ويلقون عليه الحجارة، وحتى دخل الى مزرعة أحد أشراف مكة، وجاء اليه عبد بقطف من عنب، فأخذ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في هذا الموقف العصيب يدعوه الى الإسلام
وأول قصة الهجرة بدأت باسلام ستة من شباب الأنصار، كانوا قد جاءوا الى مكة للحج، فجلس اليهم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتحدث اليهم وهم يحلقون رؤسهم
هل تستطيع أنت أن تدخل الى حلاق في بلد غير اسلامي، وتتحدث الى الذين يحلقون رؤسهم وتدعوهم الى الإسلام ؟ فان قلت لا، أقول لك: لِمَ ؟ ستقول: أخجل ! الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يخجل أبدًا
ومن المستحيل أن يكون هناك نبي خجولًا بمعنى أنه لايستطيع مواجهة الناس، ولا يستطيع أن يعبر عن رأيه، ولا يستطيع أن يطالب بحقه، واذا تكلم فانه يتلعثم ويحمر وجهه
انظر الى نوح في السورة التى تحمل اسمه يقول (( قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا *فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ))
=========
اذن لم يكن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خجولًا بمعنى عدم القدرة على مواجهة الناس، والتعبير عن رأيه، ومع ذلك كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشد الناس حياءًا، ويقول "أبو سعيد الخدري" "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها"
ويقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الحياء شعبة من شعب الإيمان" يعنى أحد أجزاء الإيمان، وأحد الطرق المؤدية للإيمان
ويقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الحياء لا يأتي إلا بخير"
=========
من قصص حيائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
من حيائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن امرأة سألته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن كيفية التطهر من الحيض، فأخبرها أن تأخذ قطعة من جلد كانوا يغتسلون بها، وتغتسل، فقالت للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- كيف ؟
فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- تطهري بها
فقالت
- كيف ؟
فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
- سبحان الله تطهري بها
فلما رأت السيدة عائشة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد استحيا، جذبت المرأة وشرحت لها الأمر
=========
من حياءه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما تزوج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من السيدة "زينب بنت جحش" بعد أن تناول الصحابة طعامهم انصرفوا، ولكن بقي ثلاثة منهم في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن حياءه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يطلب منهم الإنصراف، ونزل في ذلك قول الله تعالى في ســورة الأحزاب ((فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق))
=========
يقول أحد الصحابة كان رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَد
يقول أنس "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأرْضِ"
=========
أعلى درجات الحياء هو الحياء من الله تعالى
ويعلمنا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الحياء الحقيقي وأعلى درجات الحياء هو الحياء من الله تعالى، يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
"اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ" قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"
فالمسلم المتصف بالحياء لا ينظر الى ما حرم الله ولا يزني ولا يسرق ولا يشرب الخمر، ولا يرتكب هذه الكبائر، حتى لو كان لا أحد يراه لأنه يستحي من الله تعالى الذي يعلم ما في السر والعلن
*********************************
|