أسْرَار السيرة الشَرِيفَة- منهج حياة
الجزء الرابع والعشرون:
من أخلاق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
*********************************
الفصل التاسع والسبعون بعد المائتين
خلق الشجاعة
عند الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
*********************************
*********************************
يعرف ابن القيم الشجاعة بأنها: ثبات القلب عند النوازل
روي البخاري عن أنس بن مالك أنه قال: "كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس"
وشجاعة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر في طبيعة شخصيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسجيته، وساعده في ذلك عمله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في رعي الأغنام، منذ كان عمره ثمانية أعوام، وقد قلنا أن طبيعة العمل في رعي الأغنام يطبع شخصية صاحبه بصفات ايجابية كثيرة منها التواضع والصبر والشجاعة، لأن الراعي يخرج بالإغنام الى أماكن بعيدة، ويكون هو المسئول وحده عن حماية الأغنام ضد قطاع الطرق واللصوص والحيوانات المفترسة، وبمرور الوقت يرتكز في نفسه خلق الشجاعة
=============
من شجاعته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مواجهته كل قريش منذ الجهر بالدعوة حتى الهجرة، عشرة أعوام كاملة والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يواجه قريش بمنتهي الشجاعة والثبات، ويقف يصلى عند البيت، ويرفع صوته بالقرآن حتى تسمع قريش القرآن، ولا يتوقف لحظة واحدة عن دعوتهم
=============
وعندما هاجر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رصدت قريش مائة من الإبل لمن يأتي بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيًا أو ميتًا، فانتشر كثير من العرب في الجزيرة يطاردون الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستطاع أن يصل اليه "سراقة بن مالك" أمير قبيلة "بنى مدلج" فلما اقترب من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمع الرسول –صلى الله عليه وسلم- يقرأ القرآن ولا يلتفت اليه، وأبو بكر الصديق يكثر الالتفات، ثم لما اقترب أكثر عثرت به فرسه وسقط على الأرض، ثم نهض "سراقة" وعاد الى مطاردة الرسول –صلى الله عليه وسلم- فلما اقترب غاصت يدا الفرس في الرمال حتى بلغت الركبتين، وسقط "سراقة" على الأرض مرة أخرى، فوقع الايمان في قلب "سراقة" وآمن بالرسول –صلى الله عليه وسلم-
والشاهد في هذه القصة هو ثبات الرسول –صلى الله عليه وسلم- بحيث لا يلتفت حتى لهذا الفارس الذي يريد قتله
=============
وبعد الهجرة واجه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل العرب، وقد رأينا كيف تحزب الأحزاب، واجتمعت القبائل العربية في جيش واحد لغزو المدينة في غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة
واجه الرسول كل العرب في غزوة الخندق
=============
بل واجه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العالم كله عندما بعث بالرسائل الى الملوك والأمراء في خارج الجزيرة العربية يدعوهم الى الإسلام، وعندما وصلت الرسالة الى أمير دمشق، أقسم أن يسير الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بجيشه ولو كان باليمن، وأخذ يستعرض جيشه أمام الرسول الذي أرسله الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى الليل، ولكنه قبل أن يخرج أرسل الى قيصر يستأذنه فلم يسمح له قيصر
وكذلك عندما وصلت رسالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى كسري مزق كسري الرسالة وأراد أن يعتقل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأرسل الى عامله في اليمن "باذان" بأن يرسل اليه اثنين من جنوده ليأتي برسول الله إلى المدائن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عاصمة فارس.
وانظر الى ثبات الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما وصل الجنديين الى المدينة المنورة، وابلغاه رسالة كسري وقالا له:
- وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.
فطلب منهما الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هدوء أن ينتظرا الى اليوم التالي وسوف يرد عليهما
وفي اليوم التالي بعث الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى الجنديين وقال لهما:
- إِنَّ رَبِّي قَتَلَ رَبَّكُمُ اللَّيْلَةَ
وبالفعل في هذه الليلة كان قد قتل كسري فارس "أبرويز" على يد ابنه "شيرويه"
واجه الرسول العالم كله عندما بعث بالرسائل الى الملوك والأمراء
=============
يقول "أنس بن مالك" "كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشجع الناس، وقد فزع أهل المدينة ذات ليلة" يعنى سمعوا صوتًا عاليًا خارج المدينة، فظنوا أن هناك جيشًا وأن هناك غزوًا للمدينة "فانطلق الناس قبل الصوت" خرج الناس في اتجاه الصوت، "فتلقاهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- راجعًا وقد سبقهم الى الصوت" يعنى عندما خرجوا وجدوا الرسول –صلى الله عليه وسلم- عائدًا من جهة مصدر الصوت "وهو على فرس عُرْيٍ وفي عنقه السيف" يعنى فرس بلا سراج، وفي عنقه سيفه، وهو يقول للصحابة "لا تراعوا لا تراعوا"
=============
من شجاعة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قاد تسعة وعشرون غزوة في ثمانية أعوام فقط، أي بمعدل حوالى غزوة كل ثلاثة أشهر تقريبًا، دار القتال في تسعة غزوات، والباقي حقق أهدافه دون قتال
قاد الرسول تسعة وعشرون غزوة في ثمانية أعوام فقط
=============
يقول على بن أبي طالب "كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْهُ"
احْمَرَّ الْبَأْسُ: يعنى اشتد القتال جدًا
وكان الصحابة يقيسون الشجاع فيهم في المعركة، أقربهم الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو أقرب القوم الى العدو
كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ
=============
انظر الى شجاعة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة أحد، وهي أحلك لحظات المسلمين شدة وانهزامهم أمام عدوهم، وتكالب الكفار على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يريدون قتله
يقول المقداد بن عمرو: والله ما زال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شبرًا واحدًا، إنه لفي وجه العدوِّ، يرمي بقوسه، ويرمي بالحجر، وتثوب إليه طائفة من أصحابه مرَّة، وتُصرف عنه مرَّة، وثبت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما هو.
ويراه أُبَيُّ بن خلف فقول: أي محمد، لا نجوتُ إن نجوتَ. فيقول الصحابة: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منَّا؟ فيقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :دَعُوهُ فلمَّا اقترب، تناول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحربة، يقول الراوي: فلمَّا أخذها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشَعْراءَ عن ظهر البعير اذا انتفض بها (الشَعْراءَ: نوع من الذباب يكون على ظهر الخيل) ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة، فسقط عن فرسه، وأخذ يتدحرج عدة مرات، فمات وهم راجعون به الى مكة
ونتيجة هذا الثبات العظيم للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم تكن يتحقق نصرًا كاملًا لقريش في أحد، وانما كان انتصارًا نسبيًا لقريش، فلم تظل قريش في أرض المعركة ثلاثة أيام كما هي عادة الجيوش المنتصرة في ذلك الوقت، ولم يكن هناك أسري للمسلمين
لم تحقق قريش نصرًا كاملًا في أحد، وانما كان انتصارًا نسبيًا
=============
من مشاهد شجاعة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غزوة "حنين" عندما انهزم المسلمون في بداية المعركة، وانكشف المسلمون، وثبت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحده في هذا الموقف العصيب
فبينما كان المسلمون يفرون الى الوراء، اندفع الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحده بدابته في اتجاه المشركين، وكان الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- راكبًا بغلة قوية، وأخذ الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول بأعلى صوته:
- أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ، هَلُمُّوا إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله
وأخذ العباس –وكان رجلًا جسيمًا- يشد لجام بغلة الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليمنع الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الإنطلاق وسط هذه الأمواج من "هوازن"
وكان هذا الموقف هو أعظم مشاهد القتال في التاريخ كله: الجيش كله يفر الى الوراء، وقائد الجيش وهو الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يندفع في اتجاه العدو، ويقاتل وحده خمسة وعشرون الف مقاتل، وهو الذي كل هؤلاء الأعداء حريصون على قتله
وصاح الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعباس عمه، وكان العباس جهير الصوت، حتى يقال أن صوته كان يسمع على مسافة أكثر من عشرة كم وقال:
- يا عباس اصرخ بالمهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، وبالأنصار الذين آووا ونصروا
وسمع المسلمون صوت العباس فأخذوا يجيبونه "يالبيك يالبيك" وارتفعت أصوات الصحابة من كل مكان في أرض المعركة "يالبيك يالبيك" وتجمع المسلمون حول رسولهم مرة أخري وتحقق نصرًا ساحقًا للمسلمين
*********************************
لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا
*********************************
|