تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثالثة عشر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تدبر الآية رقم (3) من سورة البقرة
قول الله تعالى
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كان الناس قبل الهجرة بحسب أحوالهم في تلقى دعوة الإسلام صِنْفَيْنِ وهما: المُؤْمِنِينَ والكَافِرِينَ، ثم زاد بَعْدَ الْهِجْرَةِ صِنْفَانِ: وهُمَا الْمُنَافِقُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ من اليهود والنصاري، فالمنافقون ظهروا بالمدينة بعد الهجرة، وزاد عددهم كثيرًا بعد غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وَأَهْلُ الْكِتَابِ لم يهتموا بالإسلام كثيرًا في أول ظهوره، فلما أصبح للمسلمين دولة أَوْجَسُوا خِيفَةً فَالْتَقُوا مَعَ الْمُنَافِقِينَ والْمُشْرِكِينَ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وتحدث القرآن العظيم في سورة البقرة عن هذه الأصناف الأربعة:
فتحدث أولًا عن المؤمنين في أربعة آيات، ثم تحدث عن الكافرين في آيتين اثنين، ثم تحدث عن المنافقين في ثلاثة عشر آية، لأن المنافق أعظم خطرًا على المجتمع المسلم من الكافر، ثم تحدث عن بنى اسرائيل في أكثر من مائة آية، لأن المواجهة بين الأمة الإسلامية وبين اليهود هي أخطر مواجهات الأمة الإسلامية، وهي مواجهة بدأت منذ هجرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى المدينة، واستمرت حتى الآن بل وازدادت شراسة، وستستمر حتى يوم القيامة، بل من علامات الساعة تلك الحرب الفاصلة بين المسلمين وبين اليهود، والتى ستنتهي بانتصار ساحق للمسلمين ان شاء الله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وعندما تحدث عن المؤمنون قسمهم الى صنفين: الصنف الأول الذين كانوا مشركين ثم آمنوا، فقال تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
لأن العرب كانوا لا يؤمنون بالبعث بعد الموت او يوم القيامة
والصنف الثاني، هم أهل الكتاب من اليهود والنصاري الذين أسلموا وآمنوا بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)
ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ :(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (
وهكذا فان هذه الآيات الأربعة من سورة البقرة وهي من الآية (2) حتى الآية (5) تتحدث عن صفات المؤمنين سواءًا كانوا من العرب أو العجم أو المشركين او اهل الكتاب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تحدثنا في اللقاء السابق عن قول الله تعالى في سورة البقرة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)
ثم يوضح الله تعالى في آيتين تاليتين صفات هؤلاء المتقين، فقال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)
اذن هناك خمسة صفات للمتقين ذكرهم الله تعالى في هايتين الآيتين الكريمتين:
الصفة الأولى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
الصفة الثانية: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
الصفة الثالثة: مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
الصفة الرابعة: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
الصفة الخامسة: بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)
الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ
وَفِي سورة يوسف) : وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ولو كنا صادقين)
اذن (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) الَّذِينَ يصدقون بِالْغَيْبِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الْغَيْبِ لغة هو : كُلُّ مَا غَابَ واسْتَتَرَ وَاحْتَجَبَ عَنْكَ مِنْ شَيْءٍ
فالإنسان له خمسة حواس ظاهرة، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، فكل ما لا تدركه بحواسك فهو غيب
وقمة الإيمان بالغيب هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى
وكذلك الإيمان بالقرآن العظيم أنه من عند الله تعالى
والإيمان برسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والإيمان بكل ما أخبر عنه الله تعالى في كتابه العظيم، وكل ما أخبر عنه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من صفات الله تعالى، والملائكة، وقصص الأنبياء والرسل، وعذاب القبر، والبعث يوم القيامة، والميزان والصراط والجنة والنار
فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : -فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ
ولذلك عندما نزل تحويل القبلة، وكان بعض المسلمون يصلون في مسجد اسمه "مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ" فبينما هم يصلون وبعد أن انتهوا من الركعة الثانية، جائهم رجل وأخبرهم أن القبلة قد تحولت من بيت المقدس الى الكعبة، فتحولوا وهم يصلون في اتجاه الكعبة، وأتموا صلاتهم جهة الكعبة، ولذلك سمي هذاالمسجد "مسجد ذو القبلتين" فلما بلغ ما صنعوا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال "أُولَئِكَ قَوْمٌ آمَنُوا بِالْغَيْبِ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهناك تفسير آخر (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يعنى يُؤْمِنُونَ اذا غابوا وكانوا بمفردهم، لَا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إِذَا حَضَرُوا، وَيَكْفُرُونَ إِذَا غَابُوا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الملحدون والماديون لايؤمنون لا بما تدركه حواسهم فقط، وهؤلاء نقول لهم أن الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ هو الفرق بين الإنسان والحيوان، فالحيوان لَا يُدْرِكُ إِلَّا مَا تُدْرِكُهُ حَوَاسُّهُ، أما الْإِنْسَانِ فهو يُدْرِكُ أَنَّ الْوُجُودَ أَكْبَرُ وَأَشْمَلُ مِنْ ذَلِكَ الْحَيِّزِ الصَّغِيرِ الْمُحَدَّدِ الَّذِي تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ
وهم يسمون ذلك "تَقَدُّمِيَّةً" وهي في الواقع "انتكاسة" وَقَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ منها، فَجَعَلَ أول صِفَتَهُمُ الْمُمَيَّزَةَ، صِفَةَ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قَالَ بَعْضُ الشِّيعَةِ : الْمُرَادُ بِالْغَيْبِ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ، وهذا غير صحيح، لأن القاعدة أَنَّ تَخْصِيصَ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ الدَّلِيلِ بَاطِلٌ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن البعض يقول أنه آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه، فذكر الله تعالى عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ فقَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
لماذا "الصلاة" و"الزكاة" ولم يذكر غيرهما من العبادات ؟ لأن الصلاة سماها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "عماد الدين" والزكاة سماها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "قنطرة الإسلام" فكأن الصلاة والزكاة عنوان على سائر العبادات، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ بِأَنِ اسْتَغْنَى عَنْ عَدِّ الطَّاعَاتِ بِذِكْرِ مَا هُوَ كَالْعُنْوَانِ لَهَا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)
الصفة الثانية من صفات المتقين هي (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)
وفي كل موضع من القرآن العظيم يتحدث فيه الحق –سبحانه وتعالى- عن الصلاة يأتي –تعالى- بهذه التعبير وهو "اقامة الصلاة"
ولم يقل تعالى: يُصَلُّونَ، أو يَفْعَلُونَ الصَّلَاةَ، أَوْ يَأْتُونَ بِالصَّلَاةِ
لأن معنى يُصَلُّونَ: الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ حُقُوقِ الصلاة الظاهرة، مِنْ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ
أما "اقامة الصلاة" فهُوَ يزيد على ما سبق: التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُشُوعُ لَهُ
ومعنى الخشوع: أَلَّا يَنْطِقَ الْمُصَلِّي بِلَفْظٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَوْرِدُ مَعْنَاهُ عَلَى ذِهْنِهِ
وَلَمْ يَقُلِ : الْمُصَلِّي، إِلَّا فِي الْمُنَافِقِينَ قال تعالى) : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)
فالذي يضيع الخشوع في الصلاة يشترك مع المنافق في هذه الصفة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
رَزَقْنَاهُمْ : أَعْطَيْنَاهُمْ
ونحن نقول في لغتنا الدارجة "جنود مرتزقة" أي يقاتلون مقابل أخذ أموال
(وَمِمَّا) تدل عَلَى التَّبْعِيضِ، يعنى ينفقون "بعض" أموالهم، وليس كلها، كأن الله تعالى يقول لهم أنه لا يطلب منهم إِلَّا جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ
وقوله (رَزَقْنَاهُمْ) اشارة إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، لَيْسَتْ حَاصِلَةً بِقُوَّتِكُمْ ولا علمكم، وَإِنَّمَا هِيَ رِزْقُ اللَّهِ الَّذِي َأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ
(يُنْفِقُونَ) يُنْفِقُونَ: يُخْرِجُونَ . ولذلك نقول نَفَقَتِ الدَّابَّةُ : خَرَجَتْ رُوحُهَا ، وَمِنْهُ الْمُنَافِقُ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْ يَخْرُجُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ . وَالْإِنْفَاقُ: إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْيَدِ
والمراد بالنفقة هنا هي: هي الإنفاق في كل أوجه البر سواء كانت الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، أو صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، أونَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ، وقد جاء في الحديث أن "ذَلِكَ أَفْضَلُ النَّفَقَةِ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ملخص الآية
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) يُصَدِّقُونَ
(بِالْغَيْبِ) كل ما غاب عن حواس الإنسان وأخبر عنه الله تعالى ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ايمان بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ
(وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) يؤدون الصلاة بجميع حقوقها الظاهرة والباطنة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أي ينفقون من أموالهم التى رزقهم الله اياها في أوجه الخير من زكاة وصدقة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
*********************************
لمطالعة بقية الفصول- اضغط هنا
لمشاهدة الحلقات فيديو- اضغط هنا
*********************************
|