تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثامنة عشر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تدبر الآية رقم (8) من سورة البقرة
قول الله تعالى
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قلنا أن الله تعالى تحدث في أول سورة البقرة عن أصناف الناس، فبدأ بالمؤمنين لشرفهم، فتحدث
عن المؤمنين في أربعة آيات، ثم تحدث عن الكافرين في آيتين، ثم تحدث عن المنافقين في ثلاثة عشر آية
فبدأ الله تعالى بالطيب، ثم الخبيث، ثم الأخبث، بدأ الله تعالى بالطيب، وهم المتقون، ثم بالخبيث، وهم الكافرون، ثم الأخبث، وهم المنافقون
والمنافق أخطر كثيرًا من المشرك، لأن المشرك معروف عداوته للإسلام، وتستطيع أن تأخذ منه حذرك، وأن تواجهه، بينما المنافق مثل المرض الخفي الذي يفتك بالجسم دون أن تشعر به، ولذلك عقاب المنافق أعظم من عقاب الكافر، يقول تعالى في سورة النساء ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))
فالمنافق يمكن –مثلًا- ان يعرف أسرار الدولة الإسلامية، وأن ينقلها الى الكفار، ولذلك كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثلًا اذا أراد أن يخرج الى القتال كان يخفي وجهته حتى على أصحابه، لأنه كان يعلم أن داخل المدينة منافقون يمكن أن ينقلوا هذه الأخبار الى أعدائه
المنافق مثل المرض الخفي الذي يفتك بالجسم دون أن تشعر به
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد ظهر المنافقون في المدينة بعد هجرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ، بَلْ كَانَ فيها عكس النفاق، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُظْهِرَ الْكُفْرَ ويبطن الإيمان، ولذلك جميع الآيات التى تتحدث عن النفاق والمنافقين وصفات المنافقين، كلها مدنية
فَلَمَّا هَاجَرَ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ، كان في المدينة قبيلتين وهما الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كما هو حال مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وكانت بينهما كثير من الحروب في الجاهلية، وكان في المدينة ثَلَاثَ قَبَائِلَ من الْيَهُودُ، وهم: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَبَنُو النَّضِيرِ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وكان اليهود في المدينة يعملون على تأجيج العداوة بين الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، بهدف اضعاف الفريقين، وهو أمر يتقنونه جيدًا في كل العصور والأوقات
فَلَمَّا قَدِمَ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ ، أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ولم يسلم من اليهود الا واحد فقط، وهو "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ" ولم يكن في ذلك الوقت نفاق، لأن الإسلام كان لايزال ضعيفًا، والدولة الإسلامية دولة ناشئة، والمخاطر تحيط بها من كل جانب
فلما كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ الْعُظْمَى، وَأَظْهَرَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ، وَأَعْلَى الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وُجِدَ النِّفَاقُ فِي الْمَدِينَةِ، فأظهر كثير من الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ الإسلام وهم يبطنون الكفر، وكذلك بعض اليهود، وبعض الأعراب حول المدينة
أَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ من المنافقين، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ مُكْرَهًا ، بَلْ كان يُهَاجِرُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَأَرْضَهُ.
وكان المنافقون في المدينة تحت قيادة "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ" وكان سيدًا من سادات الْخَزْرَجِ، وله مكانة كبيرة في المدينة عند كل أهل المدينة سواء من الْأَوْسِ أوَ الْخَزْرَجِ، لدرجة أن الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قبل هجرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانوا على وشك أن يجعلوه ملكًا على المدينة، فلما هاجر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى المدينة وأدت هذه الفكرة، لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصبح هو رئيس الدولة، فحقد "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ" على الإسلام وحقد على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والقصة أن المدينة شهدت –كما قلنا- قبل هجرة الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تاريخًا طويلًا من الحروب بين الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وكانت آخر هذه الحروب هي حرب "بعاث" والتى انتهت بانتصار "الْأَوْسِ" وفكر العقلاء بعدها على تنصيب رجل يكون ملكًا أو حاكمًا على المدينة، واتفق الطرفان على أن يكون هذا الحاكم هو أحد سادات الخزرج وهو "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ" لأنه أولًا لم يشترك في حرب "بعاث" بل كان رافضًا ومعارضًا لها، ولأنه من "الْخَزْرَجِ" الطرف الذي انهزم في حرب "بعاث" لأنه لو نصب رجل من "الْأَوْسِ" فسيكون هذا أحد نتائج انتصار "الْأَوْسِ" وهو لا شك أمر سيرفضه "الْخَزْرَجِ"
وبعد أن اتفق أهل المدينة من الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ كانوا يجهزون التاج الذي سيلبسه "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ" وأصبح أمر تنصيبه مسئلة وقت، ولكن جائت هجرة الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واجتمع الأنصار حول راية الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وانشغلوا بحايتهم الجديدة، ووئدت فكرة أن يكون "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ" ملكًا على المدينة، فحقد على الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى الإسلام، وأظهر الإسلام وأبطن الكفر، ولم يتوقف لحظة عن الكيد ضد الدولة الإسلامية، وتعاون مع اليهود في ذلك، وقاد جماعة المنافقين في المدينة، وكانت خطورة "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ" أن له مكانته الكبيرة بين قومه
ومن أبرز مواقف المنافقين التى حاولوا من خلالها هدم الدولة الإسلامية، حين انسحبوا أثناء تحرك جيش المسلمين الى أحد، وكانوا ثلث الجيش، وهذا يدل على كثرة عددهم في المدينة
كما قاموا باشاعة حديث الإفك، حين اتهموا أمنا "عائشة" بالزنا، وفي غزوة "بنى المصطلق" في السنة السادسة من الهجرة حاولوا احداث وقيعة وفتنة بين المهارجين والأنصار، وقالوا (ولله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) وقالوا (لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) يعنى امنعوا الأموال عن أصحاب الرَسُولُ حتى ينفضوا عنه ويتركوه
"عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ" في الدراما
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والمهم أن نعلم أن المنافقون لم يقتصر وجودهم على عهد الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقط، بل هم موجودون الآن في كل مجتمع مسلم، ونموذج متكرر في كل الأجيال
ولذلك اهتم القرآن العظيم بقضية النفاق والمنافقين كل هذا الاهتمام، فتناول في مواضع كثيرة جدًا صفات المنافقين، وكيفية التعامل معهم، حتى أن هناك صورة في القرآن كاملة اسمها سورة "المنافقون"
ولو كان النفاق قضية مؤقتة خاصة بمرحلة معينة لا تزيد عن العشر سنوات لما أفرد لها القرآن العظيم كل هذه المساحة
فهناك أناس ولدوا ووجدوا أنفسهم مسلمين، وهم في باطنهم يكرهون الإسلام، فتجده أحدهم ينفر من تعاليم الإسلام، ويفزع من فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية
وتجده يكره أي مظهر من مظاهر الإسلام، فيزعجه الأذان مثلًا، ويكره الحجاب، ويقول على النقاب أنه خيمة، وينفر من اللحية
عندما يري أحدهم يقرأ القرآن في المواصلات –مثلًا- لا يعجبه ذلك، قال لي أحدهم أنه كان يقرأ القرآن في المترو، فقال له رجل: القرآن جميل، وأعظم كتاب في الدنيا، ولكن مكانه في المسجد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وأصل كلمة النفاق هو أن حيوان اليربوع، ويسمي أيضًا بالجربوع، هذا الحيوان، حيوان صغير يشبه الفأر، ولكن أرجله الخلفية طويلة مثل أرجل الكونغر، وهذا الحيوان يعيش في الصحراء في شمال أفريقيا وآسيا
هذا الحيوان يبنى جحره من غرفتين، غرفة أمامية اسمها "الْقَاصِعَاءُ" وغرفة خلفية اسمها "النَّافِقَاءُ" وهذه الغرفة الخلفية بينها وبين ظاهر الأرض قشرة رقيقة، حتى لا تظهر أو يعرف مكانها، فاذا هاجمه عدو، يدفع هذه القشرة برأسه ويهرب
وكانت العرب اذا أرادت أن تصيد اليربوع، ويهرب من هذه الحجرة الخلفية، تقول "نافقت اليربوع"
فسمي المنافق بهذا الإسم، نسبة الى "نافقاء اليربوع" لأن هذه الغرفة ظاهرها يخالف باطنها، فظاهرها تراب كالأرض وباطنها جحر، وكذلك المنافق ظاهره ايمان وباطنه كفر
ولأن المنافق يدخل في الإسلام ظاهرًا، كما يدخل هذا الحيوان من غرفته الأمامية والتى يطلق عليها "الْقَاصِعَاءُ" ثم يخرج هذا المنافق سرًا، كما يخرج "اليربوع" من غرفة سرية اسمه "النَّافِقَاءُ"
ولأن المنافق يشبه هذا الحيوان في الجبن والمرواغة والخداع
وسبحان الله فان كلمة النفاق لغة جاءت من تصرف حيوان ارتبط اسمه بالحقارة والوضاعة، فاذا أراد أحد أن يحقر آخر فانه يشبهه بهذا الحيوان ويقول له: أنت جربوع
حيوان الجربوع
بيت الجربوع
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يقول تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ
أصل كلمة "ناس" هو "أناس" ثم حذفت الهمزة للتخفيف لكثرة استخدامها
وكلمة "انسان" من النسيان، لأن آدم –عليه السلام- نسي أمر الله تعالى وأكل من الشجرة، قال تعالى (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ)
يقول الشَّاعِرُ:
لَا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا سُمِّيتَ إِنْسَانًا لِأَنَّكَ نَاسِي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل أن "النَّاسُ" مِنَ "الْأُنْسِ" فالانسان يأنس بغيره، لأن الإنسان مخلوق اجتماعي، لا يستطيع أن يعيش بمفرده
يقول الشَّاعِرُ:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِأُنْسِهِ وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ( ولم يقل تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشهدِ( لأن في الشهادة يوافق القول القلب، بينما في القول يمكن أن تقول شيئًا يخالف اعتقادك، وهذا هو حال المنافق
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ)
أي أَنَّهُمْ قَدْ حَازُوا الْإِيمَانَ مِنْ قُطْرَيْهِ؛ وَأَحَاطُوا بِهِ مِنْ طَرَفَيْهِ؛ فالإيمان بالله واليوم الآخر هو حَاصِلَ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ
فقولهم "آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ" هو قول في غاية الفصاحة، وقمة الإيمان
فالآية تلفتنا الى ألا نغتر بقول المنافقين، ولا ننخدع بأقوالهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
نستكمل في الحلقة القادمة بقية صفات المنافقين، وسنجد في كل آية صفة من صفات المنافين، وهي –كما ذكرنا- ليست صفات المنافقين في عهد الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنها صفة المنافقين في كل الأوقات وفي كل الأجيال
*********************************
لمطالعة بقية الفصول- اضغط هنا
لمشاهدة الحلقات فيديو- اضغط هنا
*********************************
|