Untitled Document

عدد المشاهدات : 2927

الحلقة (25) تدبر الآيتين (23) و(24) من سورة البقرة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُو

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الخامسة والعشرون
❇        
تدبر الآيتين (23) و(24) من سورة البقرة
 وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
❇        
قلنا أن الله تعالى تحدث في أول سورة البقرة عن أصناف الناس، فتحدث عن المؤمنين والكافرين والمنافقين، ثم توجه بعد ذلك بالنداء الى الجميع فقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي وحدوا الله بالعبادة، وهذا هو الركن الأول من أركان العقيدة في الإسلام 
وبعد أن عالج الله تعالى قضية التوحيد في آيتين، جاء الحديث عن المنهج، وعن الرسول الذي يبلغ هذا المنهج
وهذا هو التسلسل المنطقي، لأنه طالما آمنا بإلاه فلابد أن يكون هناك منهج لهذا الإله (افعل ولا تفعل) ولابد أن يكون هناك من يحمل هذا المنهج للناس، لأن الإله لايمكن أن يتحدث الى كل البشر
والشرط في الرسول الذي يحمل المنهج أن يكون أولًا من البشر، لأن الرسول ينبغي أن يكون تطبيقًا عمليًا للمنهج، واذا لم يكن من جنسك يسقط الإقتداء بها، وينبغي ان يكون من صفوة البشر، لأن الرسول يجب أن يكون أسوة في تطبيق المنهج
❇        
وهذه مشكلة كبيرة في الديانة اليهودية والنصرانية، لأنهم رفعوا أحد أنبيائهم وهو عيسى –عليه السلام- الى مرتبة الألوهية، أو ابن الإله، بينما قالوا عن غيره من الأنبياء أنهم بشر عاديين ولا عصمة لهم، فجعلوا "لوط" عليه السلام يشرب الخمر ويزني ببناته، و"سليمان" عليه السلام سجد لغير الله، و"داوود" يرسل قائد الجيش ليموت في المعركة ويتزوج هو بامرأته، و"هارون" صنع لبنى اسرائيل البقرة التى عبدوها بيده
ونقول لهم عندما تألهوا أحد الرسل، وهو المسيح –عليه السلام- هدمتم موضوعه كرسول، لأنكم أسقطتم عنه الأسوة، وعندما جعلتم الرسل بشرًا عاديين، يرتكبون أراذل الذنوب والكبائر، أسقطتم كذلك عنهم الأسوة
❇        
اذن بعد أن تحدث الله تعالى عن قضية التوحيد، تحدث بعد ذلك عن أركان أخري من أركان العقيدة في الإسلام، وهي  الإيمان بالقرآن العظيم، أنه جاء من عند الله تعالى، والإيمان بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
اذن الآيات فيها اشارة الى كلمتى التوحيد، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله
ودائمًا في القرآن يأتي بما يدل على التوحيد، ثم بما يدل على الرسالة
❇        
ولذلك جائت الجملة التالية معطوفة فقال تعالى
 وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) يعنى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي شكٍ أن هذاالقرآن العظيم ليس من عند الله وانما جاء به "محمد بن عبد الله" من عند نفسه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي بسورة واحدة من مثل هذا القرآن
والسورة نعرفها هي طائفة من القرآن، أطلق عليها سورة لأنها مسورة أي محددة فلا يدخل اليها ما ليس منها ولا يخرج منها شيء، أو لأن لها منزلة عالية، لأن الأصل في السور أن يكون مرتفع
(وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي استعينوا على هذا الأمر بمن تشاؤن، من قريش ومن غير قريش، ومن العرب ومن غير العرب، واستعينوا على هذا الأمر بآلهتكم (مِنْ دُونِ اللَّهِ) يعنى من غير الله، بل واختاروا بأنفسكم الذين يحكمون في هذا الأمر بينى وبينكم
 (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يعنى ان كنتم صادقين في الإرتياب
❇        
ومعنى أن يأتوا بمثله مثل ما نطلق عليه "المعارضة الشعرية" يعنى أن يكتب الشاعر قصيدة تشبه قصيدة شاعر آخر في الموضوع والوزن والقافية، لتكون مباراة أو منافسة بين الشاعرين، وقد يتفوق الجديد على القديم، مثل شوقي مثلًا عندما عارض البوصيري في "نهج البوردة"
❇        
وهذه الآية هي قمة تحدي العرب بالقرآن العظيم، وقمة تحدي المجادلين في نبوة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لأن الله تعالى عندما تحدي العرب بالقرآن، تدرج في تحديه للعرب، فتحدي العرب أولًا أن يأتوا بمثل القرآن، فقال تعالى في سورة "الإسراء" (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)
ثم تدرج معهم فطلب بأن يأتوا بعشر سور من القرآن، فقال في سورة "هود" (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (
ثم تدرج معهم فتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من القرآن فقال تعالى في سورة "يونس" (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
ثم ترقي الله تعالى في التحدي، حتى وصل الى قمة التحدي في هذه الآية من سورة "البقرة" فقال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
ففي سورة "يونس" قال تعالى (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) وفي هذه الآية قال تعالى (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)
ولذلك يخطأ البعض حين يقول (مِنْ) ذائدة لأنه ليس في القرآن حرف زائد
كلمة (مِنْ مِثْلِهِ) ترقي آخر في التحدي، كأن الله تعالى يقول ليس التحدي أن تأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن، ولكن التحدي أن تأتوا بسورة من بداية ما يقال له مثل
مثال: قد يقول القائل: ماعندي مال، فهو هنا ينفي أن يكون عنده مال ذا قيمة، قد يكون عنده عشرة جنيهات أو مائة جنيه، ولكن ليس عنده ألف، أي ليس عنده مال ذا قيمة
ولكن اذا قال، ماعندي من مال، فهو ينفي ان يكون عنده مال من بداية ما يقال له مال، فهو لا يمتلك قرش واحد
اذن هذه الآية هي قمة التحدي للعرب ولغير العرب الى يوم القيامة، لأن التحدي ليس بأن تأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن، ولكن بسورة تشبه سورة من سور القرآن 
وهذا التدرج في التحدي امعانًا في التحدي
❇        
حتى في أقصر سور القرآن لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها، وعندما نزلت قصار السور اعتقد بعض مدعي النبوة في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يستطيع أن يأتوا بمثل هذه السور
روي عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ ، فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ : مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى صَاحِبِكُمْ بِمَكَّةَ فِي هَذَا الْحِينِ ؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ سُورَةٌ وَجِيزَةٌ بَلِيغَةٌ فَقَالَ: وَمَا هِيَ ؟ فَقَالَ) : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( فَفَكَّرَ "مسيلمة" قليلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: وَلَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ مِثْلُهَا، فَقَالَ: وَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: يَا وَبْرُ يَا وَبْرُ، إِنَّمَا أَنْتَ أُذُنَانِ وَصَدْرٌ، وَسَائِرُكَ حَقْرٌ فَقْرٌ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى يَاعَمْرُو ؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ تَكْذِبُ. 
يقول "الشافعي" : لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ) : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( . 
❇        
وقد نزل القرآن العظيم عربيًا فصيحًا معجزًا في فصاحته، فكانت معجزة القرآن من جنس ما نبغ فيه العرب، لأن العرب هم أهْلُ الْبَرَاعَةِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ والشعر والنثر
ودائمًا تأتي معجزة الرسول من جنس ما نبغ فيه قومه، فجاءت معجزة موسى أمور كالسحر، وأمور تبطل السحر، لأن المصريين كانوا نابغين في السحر في زمن موسى، وجاءت معجزة "عيسى" أنه يبريء الأكمه –الذي ولد كفيفًا- والأبرص وهو مرض جلدي لم يكن له علاج في ذلك الوقت، لأن الروم –الذين كانوا مسيطرين على منطقة الشام التى بعث فيها عيسى- كانوا نابغين في الطب
لأن الرسول اذا جاء بمعجزة في أي مجال ربما قال قائل، لو تعلمنا هذا الأمر لجئنا بمثله، ولكن اذا جاء بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه، وهم يعلمون أن النبوغ بين البشر محصور فيهم، فلابد أن ما جاء به ليس من عند نفسه، وانما هو من عند الله تعالى
وهكذا كانت معجزة القرآن العظيم في فصاحته لأن العرب هم أهْلُ الْبَرَاعَةِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ والشعر والنثر
وكلما ابتعد العرب عن لغتهم العربية وضعفت ملكاتهم فيه، ظهرات جوانب أخري من اعجاز القرآن العظيم: الأعجاز العلمي، والإعجاز العددي، اعجاز طبي، اعجاز غذائي، اعجاز تاريخي، اعجاز تشريعي، اعجاز تربوي، حتى يظل القرآن العظيم معجزة يتحدي الله تعالى بها كل البشر الى يوم القيامة، ودليلًا لكل البشر الى يوم القيامة أن هذا القرآن ليس صناعة بشرية، ولا يمكن أن يكون "محمد بن عبد الله" -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد جاء به من عند نفسه
❇        
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا)  وهذا تصعيد آخر للتحدي الى يوم القيامة، فأنتم لا تستطيعوا أن تأتوا بمثل سورة واحدة من القرآن، ولن تستطيعوا ذلك أبدًا الى يوم القيامة  
لأن لم تفيد النفي في الماضى، ولن تفيد في المستقبل
ان الشرطية الأصل فيها الشك، انما لو أمر متحقق نأتي باذا في الشرط، كما لو قلنا ((اذا جاء نصر الله والفتح)) 
❇        
(فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)
اتَّقُوا النَّارَ يعنى اجعلوا بينكم وبين النار وقاية وحاجز
(الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)
كل وقود في الدنيا له مشاكله وله مخلفاته، مثل الحطب والفحم والنفط والغاز والبنزيت والآن الوقود النووي
فاذا كان الناس هم وقود النار، فان مخلفاته هو القيح والصديد وما يسيل من جلود أهل النار 
(وَالْحِجَارَةُ) هي حجارة الكبريت الأسود، لأنها أشد الحجارة اشتعالًا، ونحن نستخدمها في صناعة البارود وأعواد الثقاب
وقيل أن حجارة الكبريت فيها خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ: سُرْعَةِ الِاتِّقَادِ، وقُوَّةِ حَرِّهَا، نَتْنِ الرَّائِحَةِ، كَثْرَةِ الدُّخَانِ ، شِدَّةِ الِالْتِصَاقِ بِالْأَبْدَانِ 
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى) : وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قَالَ: هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ، خَلَقَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، يُعِدُّهَا لِلْكَافِرِينَ
وأيضًا الْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ الْأَصْنَامُ التى كانوا يعبدونها، وهذا مثل قول الله تَعَالَى في سورة الأنبياء : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) أَيْ حَطَبُ جَهَنَّمَ . وهذا يدل على عظم النار لأَنَّهَا تَحْرِقُ الْحِجَارَةَ 
وفي هذا اذلال للكفار عندما يجدون الآلهة التى كانوا يعبدونها ويقدسونها هي الوقود للنار التى يتعذبون بها 
وهو أيضًا لتيئيس الكفار لأنهم ربما يكون عنهم أمل أن تأتي الآلهة وتنقذهم من العذاب
❇        
ثم يقول تعالى (أعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)
والمعنى أن هذه النار مش لسه حأخلقها، بل هي جاهزة من الآن
كما قال الله تعالى عن الجنة في اكثر من موضع في القرآن  أنها (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) فهذا تطمين غاية التطمين للمؤمن كما ان أعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ترهيب غاية الترهيب للكافر