تَدَبُر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السادسة والعشرون
تدبر الآية (25) من سورة البقرة
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بعد أن تحدث الحق –سبحانه وتعالى- عن عذاب الكافرين في جهنم فقال تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)
تحدث –تعالي- عن نعيم المؤمنين في الجنة فقال تعالى) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
ودائمًا يذكر الله تعالى في القرآن العظيم الشيء ومقابله، فيذكر التَّرْغِيبَ مَعَ التَّرْهِيبِ، وَالْبِشَارَةَ مَعَ الْإِنْذَارِ، وحَالَ السُّعَدَاءِ ثُمَّ حال الْأَشْقِيَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ مَثَانِي، يقول تعالى في سورة الزمر (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ)
وهذا الذي نطلق عليه في اللغة "الطباق" يعنى ذكر الشيء وضده، وهذا من المحسنات في اللغة، لأنه يوضح المعنى، كما تضع اللون الأبيض بجوار الأسود، أو اللون الغامق بجوار الفاتح، فيظهر اللوننين
فعندما تتحدث عن نعيم الجنة بعد أن تحدثت عن العذاب في النار، يكون تأثير الحديث عن العذاب في النفوس أكبر، ويكون تأثير الحديث عن نعيم الجنة في النفوس أكبر كذلك
أيضًا لأن من الناس من يؤثر فيه التخويف أكثر من اللطف، ومنهم من هو بالعكس، فجمع الله تعالى بينهما في القرآن كله
ولذلك يخطأ بعض الدعاة عندما يتحدث عن عذاب النار فقط، ويخطأ من يتحدث عن نعيم الجنة فقط، نقول ينبغي أن تقتدي بخطاب القرآن في هذا الأمر، فتجمع في موعظتك دائمًا بين عذاب النار ونعيم الجنة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا) والبشارة هي اخبار بأمر سار
وسميت "بشارة" لأن الذي يسمع خبرًا يسره، يظهر ذلك على بشرته
وحين بقول تعالى ) وَبَشِّرِ) فتلك هي البشارة الحقيقية، لأن الله تعالى هو القادر على أن ينفذ ما بشر به، أما اذا كانت البشارة من الخلق فقد يعجزه أي طاريء في أن يحقق ما بشر به، وهذا هو الفرق بين بشارة الحق وبشارة الخلق
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى ) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
دائمًا في القرآن العظيم يأتي ذكر الإيمان مقرونًا بالعمل، وقد ورد ذكر عبارة (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) واحد وخمسون مرة، فلا الإيمان بلاعمل ينفع، ولا العمل بدون ايمان يصح
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) ذكر تعالى (جَنَّاتٍ) بصيغة الجمع، لأنها منازل، فهناك جنة عدن، وجنة المأوي، النعيم، عليين، دا الخلد، دار السلام، الفردوس
أو أن المؤمن له عدة جنات وليست جنة واحدة
والجنة هي البستان، وسميت جنة لِأَنَّهَا تُجِنُّ مَنْ فِيهَا أَيْ تَسْتُرُهُ بِشَجَرِهَا
فمادة الجيم والنون تأتي بمعنى الستر، ولذلك سميت بها الجن لأننا لا نري الجن، وسمي الجنين لأنه مستور في بطن أمه ولا نراه، والمجنون لأن عقله مستور، يقول تعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) يعنى ستره الليل بظلامه
وهكذا سمي البستان كثير الشجر بالجنة أنه يستر أرضه فلا تراها، ولأنه يستر من يمشي فيه فلا نراه، كما قال تعالى في سورة الكهف (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْت جَنَّتك )
أو لأن الجنة تستر ما فيها عن بقية الوجود لأن فيها ما يكفيه من كل الوجود
كما أن كلمة قصر لأنه يقصرك عن بقية الخلق
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) يعنى مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا، ومن تحت قصورها
أيضًا كلمة (مِنْ تَحْتِهَا) يعنى ليس النهر مجرد يمر على مسكن المؤمن، ولكن منبع النهر نفسه في داخل حدود مسكن المؤمن وممتلكاته في الجنة
لو النهر يمر فقط على مسكن المؤمن، يحتمل أن من ينبع عنده النهر يمنعه عنه، كما يحدث في الدنيا، وقد رأينا مشكلة مصر مع أثيوبيا، فيقول له الله تعالى: اطمئن أنت تمتلك النهر وتمتلك كذلك منبع النهر
وجاء وصف أنهار الجنة في القرآن والسنة، فقال تعالى في سورة "محمد" (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۖ)
وهنا نجد الله تعالى ينقي كل نهر من آفاته في الدنيا، فالماء آفته أن يأسن أي يصيبه العفن وتتغير رائحته، فقال تعالى (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) وآفة اللبن أن يتغير طعمه، فقال تعالى (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) وآفة الخمر أنه كريه الطعم والرائحة فقال تعالى (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وآفة العسل الشوائب التى فيه، فقال تعالى (وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۖ)
وورد في الحديث في وصف أنهار الجنة أنها تنبع من جبال المسك
وورد في الأثر أيضًا أن نهر الكوثر أبيض من اللبن وأحلى من العسل، وأن على حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، وَطِينُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْجَوْهَر
أيضًا ورد في الحديث أن أنهار الجنة ليس لها مجري وانما تجري على سطح الجنة، والماء من خصائصه الإستطراق، فاذا جري من غير مجري فانه يسيل، أما كيف يجري على سطح الجنة دون أن يسيل، فهذا ما سنعرفه عندما ندخل الجنة ان شاء الله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا) "مِنْهَا" أي من الجنات وأشجارها
(قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) أي أن الولدان الذين يقومن على خدمة المؤمنين في الجنة، والذين (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) يطوفون عليهم بالفواكه، فيأكلون منها، ثُمَّ يُؤْتَوْنَ بِمِثْلِهَا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ! فَيَقُولُ لَهُمُ الْوِلَدَانُ، أو يقول لهم الملائكة: كُلُوا، فَإِنَّ اللَّوْنَ وَاحِدٌ، وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ
لماذا ؟ حتى تكون هناك مفاجأة سارة في كل مرة يأكلون، يعنى هناك حتى جو من الدعابة والتفكه في كل مرة يأكلون
ولذلك قال تعالى (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا)
وأيضًا (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) يعنى يشبه ثمار الدنيا في الإسم،ولكنه مختلف في الطعم
ولذلك يقول ابن عباس (لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسَامِي )
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ)
لاحظ هنا جمال الترتيب، فقد تحدث الله تعالى أولًا عن المكان، ثم الطعام والشراب الذي في المكان، ثم أخيرًا عن التمتع بالزوجات
والتمتع بالزوجة هو أعظم متع الدنيا، ولكن تنغيصاتها متعددة، ولذلك تجد أغلب الناس يتزوجون، وأغلب الناس يشتكون من الزواج
ولذلك ضمن الله لك هذه المتعة في الجنة، ولكن بعد أن طهرها من كل ما فيها من منغصات، فقال تعالى (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) والطهارة هنا طهارة الظاهر وطهارة الباطن، فهي مطهرة من الحيض والنفاس والبول والغائط والعرق، وأيضًا طهارة الباطن، يعنى مطهرة من الغل والحقد والكراهية، وسائر الأخلاق المذمومة
وقد جاء وصف الحور العين في القرآن والسنة في اكثر من موضع، فقال الله تعالى في وصفهن (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) يعنى اللؤلؤ الشديد الصفاء لأنه مستور عن الريح والشمس
وقال تعالى (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) الياقوت في صفائه، والمرجان في بياضه
وقال تعالى (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا ) "عُرُبًا" يعنى شديدة التود لزوجها وشديدة الحب له و"أترابًا" يعنى في سن واحدة
قال تعالى (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ) خيرات جمع خيرة، يعنى حسنة الخلق، وحسان يعنى جميلة الوجه، فهي قد جمعت بين الجمال الباطنى والجمال الظاهري
وقال تعالى (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) يعنى لا تنظر الا الى زوجها
وقال تعالى (مقصورات في الخيام) يعنى لا تخرج من خيمتها، وانما متفرغة لزوجها فقط
روي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما , ولملأت ما بينهما ريحا , ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ) رواه البخاري
أما المرأة المؤمنة التى تدخل الجنة فهي أكثر جمالًا من الحور العين
وهذا من ثوابها، لأن المرأة يعنيها كثيرًا أن تكون جميلة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بعض أعداء الإسلام يقولون الله تعالى تحدث عن الحور العين، وضمن للرجل في الجنة الإستمتاع بالمرأة، فلماذا لم يذكر استمتاع المرأة بالرجل في الجنة، ولماذا لم يذكر أن هناك حور عين رجال ؟
وهم هنا يحاولون أن يحرضوا المرأة على الإسلام
نقول أن المرأة الكريمة في نفسها لا تحب ان يتعدد عليها الرجال
لدرجة أن بعض النساء بعد أن يموت عنها زوجها ترفض أن تتزوج مع أن الله تعالى أحل لها ذلك
اذن عدم ذكر حور عين للمرأة في الجنة من الرجال هو امتدادًا لحفظ الإسلام لكرامة المرأة وعزتها
ومع ذلك نقول ان للمرأة في الجنة ما تشتهيه نفسها، ولن يوجد شيء ينغص عليها سعادتها وما هي فيه من النعيم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يختم الله تعالى هذا الوصف للجنة فيقول (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ومعنى خالدون أي أي ماكثون لا يخرجون منها، و هَذَا هُوَ تَمَامُ السَّعَادَةِ، لأن أي نعيم في الدنيا له منغصان: أن تتركك النعمة، فان لم تتركك فأنت سوف تتركها، تتركك النعمة بأن تزول، فان لم تتركها فستتركها انت بالموت
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
نسأل الله العظيم أن يؤتينا أفضل ما يؤتي عباده الصالحين .
|