تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الرابعة والثلاثون
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تدبر الآية (36) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
انتهينا في الحلقة السابقة عند قول الله تعالى (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)
بدء ابليس بعد ذلك مباشرة عمله في اغواء آدم، ولم يكن محرمًا على آدم الا أكل شجرة واحدة، فبدء ابليس في اغواء آدم ليأكل من هذه الشجرة الواحدة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وتحدث العلماء في كيفية اغواء ابليس لآدم ! هل كانت وسوسة أم مشافهة ؟ فالوسوة هي الكلام الخفي دون رؤية المتحدث، أما المشافهة فهو كلام مسموع ومن شخص واضح
قال بعض العلماء أنها كانت مشافهة، بدليل قول الله تعالى في سورة الأعراف (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) ) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)
وقال البعض أنها كانت وسوسة، بدليل قول الله تعالى (فوسوس لهما الشيطان فاخرجهما مما كانا فيه) وقوله (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
العلماء الذين قالوا أنها كانت مشافهة، تكلموا في كيفية دخول ابليس الى الجنة بعد أن طرد منها
فقال البعض انه منع من دخول الجنة على جهة التكريم، كما يدخل الملائكة، ولكن هذا لا يمنع من دخوله ذليلًا ابتلاء لآدم
وقيل أنه وقف على باب الجنة وناداهما
وفي التوراة أن ابليس عرض نفسه على جميع الحيوانات أن تساعده في دخول الجنة، فرفضت كل الحيوانات، حتى تحدث الى الحية وقال لها: أمنعك من ابْن آدم فَإنَّك فِي ذِمَّتِي إِن أدخلتني الْجنَّة، فوافقت الحية، وكانت وقتها لها أربعة أرجل، ومن أحسن الحيوانات شكلًا، فدخل ابليس في جوفها، ومرت به على خزنة الجنة وهم لا يعلمون، فلما دخلت به الجنة، خرج من جوفها، وتحدث الى آدم وحواء
ولذلك عوقبت الحية بأن أصبحت بلا أرجل، وجعلت العداوة بينها وبين بنى آدم
ولذلك يَقُول ابْن عَبَّاس: فاقتلوها حَيْثُ وجدتموها اخفروا ذمَّة عدوّ الله فِيهَا .
وكما قلنا من قبل فنحن لا نكذب التوراة ولا نصدقها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أما العلماء الذين قالوا أن ابليس أغوي آدم عن طريق الوسوسة، فوسوسة ابليس لآدم لا تقتضى دخول ابليس الى الجنة، ولم يقل أحد أن ابليس اذا وسوس لأي شخص يجب أن يكون واقفًا أمامه أو الى جواره ملاصقًا له، ونحن نتحدث في التليفون من مصر مثلًا لشخص في الولايات المتحدة، ولذلك قال الرسول –صلى الله عليه وسلم- "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"
وعلى هذا فيمكن أن يوسوس ابليس لآدم وهو خارج الجنة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كيف استطاع ابليس اغواء آدم ؟
قيل أن ابليس لما دخل الجنة، وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه ابليس، فأخذ يبكي وينوح، فقالا له: ما يبكيك ؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة ؟ فاغتما لذلك، ثم مضى، وعاد اليهما وقال
يقول تعالى في سورة الأعراف (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) يعنى من الخالدين في الجنة، وهكذا استغل ابليس حب الإنسان للبقاء والخلود، لأن كل انسان يحب ذاته، ويترتب على حب الذات، حب البقاء والخلود، ولذلك من أسباب تعلقنا بأبنائنا، هو حب البقاء والخلود، لأن الأبناء هم الإمتداد الطبيعي لحياة الإنسان
) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (فأقسم ابليس لآدم وحواء أنه لا يكذب وأنه يريد لهما الخير، ولم يكن يتخيل آدم في ذلك الوقت، أنه يمكن لأي مخلوق أن يقسم بالله كذبًا
وهكذا استغل ابليس قلة خبرة آدم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل أن حواء هى التى أكلت من الشجرة أولًا، ثم أغوت آدم وقالت له: كل فإني أكلت منها فلم تضرني
والسياق لا يقتضى أن حواء أغوت آدم، بل أن السياق يظهر اشتراك آدم وحواء في كل شيء، يقول تعالى (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا) و) وَقَاسَمَهُمَا( و(فأكلا منها)
ولكن قد تكون حواء هي التى بدأت بالأكل، وشجع هذا آدم، لأن آدم نبي، فلا شك أنه أقوي من حواء، ولو أن سياق الآيات لا يظهر ذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا)
وهذه قراءة جمهور القراء
كلمة (أَزَلَّهُمَا) من الزلل وهو عثور القدم، كما نقول زلت قدمه
وقرأ حمزة (فَأَزَالَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا)
وكلمة (أزالهما) من الزوال، وهو التنحية
و(عَنْهَا) الضمير عائد على الجنة
فعلى قراءة الجمهور
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا)
أي أوقعهما الشيطان في الذلل والخطيئة والمعصية بالأكل من الشجرة، فكان ذلك سببًا في خروجهم من الجنة
وعلى قراءة حمزة (فَأَزَالَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) يعنى نحاهما وأبعدهما عن الجنة بسبب خطيئة الأكل من الشجرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كلمة (أَزَلَّهُمَا) من الزلل، وكلمة (أزالهما) من الزوال
اللفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)
(اهْبِطُوا) الضمير للجميع: آدم وحواء وابليس
(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي: آدم وذريته; أعداء لإبليس وذريته
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي استقرار وحياة (وَمَتَاعٌ) يعنى أرزاق تتمتعون بها (إِلَى حِينٍ) الى وقت معلوم وهو الموت أو يوم القيامة
اذن المعنى: أنكم سوف تستقرون في الأرض، وسوف تتمتعون في الأرض بما أعطاكم الله من النعم فيها، وذلك حتى الموت أو يوم القيامة
وهكذا كانت هذه بداية انطلاق المعركة بين الإنسان والشيطان والتى ستستمر الى آخر الزمان
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ رَجُلا طُوَالا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ، (وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة) أخذ يلصق ورق الشجر، بعضه إِلَى بعض، ثم جَعَلَ آدم يَشْتَدُّ فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ شَعْرَهُ شَجَرَةٌ فَنَازَعَهَا، فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ: يَا آدَمُ مِنِّي تَفِرُّ ؟ فقَالَ آدم: يَا رَبِّ لا، بَلْ حَيَاءً مِنْكَ.
قال تعالى: يا آدم ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً، قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كداً
قال تعالى: يَا جِبْرِيل أخرجه اخراجاً غير عنيف فَأخذ بِيَدِهِ يُخرجهُ .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
عندما هبط آدم الى الأرض كان مطأطئا رأسه، ويداه على ركبتيه، بينما هبط ابليس يداه في وسطه، رافعًا رأسه الى السماء
وهذا الفرق بين ذنب آدم وذنب ابليس، أن آدم ندم وتاب، بينما أصر ابليس على الذنب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اختلف العلماء في فترة مكوث آدم في الجنة
فقال البعض ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس
وقال البعض مكث سنوات، فقال البعض أنه لبث مائة وثلاثون سنة، وقال البعض أنه مكث خمسمائة سنة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
عندما أهبط آدم وحواء من الجنة، علم آدم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث فيها وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم داسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي كذلك أن آدم وحواء عندما هبطا كانا عريانين، ليس عليهما الا ورق الجنة، وأصابهما الحر، وقال آدم: يَا حَوَّاء قد آذَانِي الْحر فَجَاءَهُ جِبْرِيل بِقطن وعلم حواء كيف تغزل، وعلم آدم الحياكة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي أن أول شَيْء أكله آدم حِين أهبط إِلَى الأَرْض الكمثرى، فلما اراد قضاء حاجته، أخذه ذَلِك كَمَا يَأْخُذ الْمَرْأَة عِنْد الْولادَة فَذهب شرقاً وغرباً لَا يدْرِي كَيفَ يصنع، حَتَّى نزل إِلَيْهِ جِبْرِيل فأجلس آدم حتى قضى حاجته، فلما خرج ذَلِك مِنْهُ ووجد رِيحه مكث يبكي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ونزل آدم بالهند، وقبضة من ورق الجنة بيده، وذلك أسفًا على الجنة حين أهبط منها
ولذلك اشتهرت الهند بالطيب، فان أصل الطيب من الهند من قبضة الورق التى هبط بها آدم
وأهبطت حواء بجدة، ولذلك اطلق عليها "جدة" أي الجدة "حواء"
وأهبط ابليس قريبًا من البصرة في العراق
وعندما جاء موسم الحج، اتجه آدم الى مكة ليحج، واتجهت حواء كذلك الى مكة لأداء الحج، فالتقيا "آدم وحواء" في "عرفة" ولذلك أطلق على هذا المكان "عرفة" لأنه المكان الذي التقي فيه آدم وحواء وعرفا بعضهما
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الكثير يسأل كيف يذنب آدم هذا الذنب وهو نبي
نقول أولًا أن آدم عندما أذنب هذا الذنب لم يكن نبيًا، لأن نبوة آدم بدأت بعد نزوله الأرض
ثانيًا: الذنب الذي أذنبه آدم ليس من الكبائر وانما هو من الصغائر، وجمهور علماء السنة أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والبعض يسأل كيف يذنب آدم هذا الذنب ؟
فأولًا لم يكن هناك غير نهي واحد فقط، ومع ذلك وقع في هذا النهي
وشهد امتناع ابليس عن السجود
وسمع ابليس وهو يقول أنا خير منه
وشاهد ابليس وهو يطرد من الجنة بسبب عدم السجود اليه
ومع ذلك لم يكتف الحق بالدلالات الطبيعية، بل حذره تعالى وقال (يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى.)
ومع كل ذلك وقع آدم في الخطيئة وطرد من الجنة
نقول أن ما فعله آدم تقع فيه كل ذريته
آدم حذره الله تعالى من الوقوع في الخطيئة فوقع في الخطيئة
ونحن حذرنا الله تعالى من الوقوع في الخطيئة، ونقع في الخطيئة
خذ مثلًا الغيبة، حذرنا الله تعالى منها في القرآن العظيم، وعلى لسان رسوله –صلى الله عليه وسلم- ونقع فيها
على الأقل آدم ارتكب ذنبًا واحدًا وتاب منه، وظل سنوات يبكي على ذنبه، ونحن نرتكب الذنب ونصر عليه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: بَكَى آدم حِين أهبط من الْجنَّة بكاء لم يبكه أحد وَمكث أَرْبَعِينَ سنة لَا يرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء ..
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول "فتح الموصلي" الزاهد الولي العابد "كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بعض العلماء أخذ من هذه الآية (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) وأيضًا قوله تعالى في سورة الأعراف (فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) أن أي أبحاث أو محاولات للعيش في غير الأرض هي محاولات فاشلة
لأن هناك أبحاث لا تتوقف للبحث عن كواكب أخري تصلح للعيش عليها، ووصل عدد الكواكب التى تخضع للبحث الى 31 كوكبًا خارج المجموعة الشمسية، وميزانيات البحث 100 مليون دولار سنويًا
هذه الآيات تقول وفروا هذه الأموال لتحسين مستوي المعيشة على الأرض، لأن الأرض هي الكوكب الوحيد الذي يصلح لحياة بشرية…
*********************************
لمطالعة بقية الفصول- اضغط هنا
لمشاهدة الحلقات فيديو- اضغط هنا
*********************************
|