تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثامنة والثلاثون
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تدبر الآية (42) و(43) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لا يزال الله تعالى في حديثه الى بنى اسرائيل، فيقول تعالى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)
وتلبسوا مأخوذة من اللباس الذي يلبسه الإنسان، فاللباس الذي يلبسه الإنسان يستر الجسم ويخفيه
وكذلك الذي يلبس الحق بالباطل، كأن الحق واضحًا أمامه وأمام الناس، ثم يأتي ويلبسه بلباس الباطل فيستره ويخفيه
فالحق هنا هو الآيات الدالة على نبوة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التوراة والإنجيل، والباطل هو تحريفهم لتلك الآيات
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
معنى آخر لقوله تعالى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) اللبس هنا بمعنى الخلط
كما قال تعالى في سورة الأنعام (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) وكما نقول في لغتنا الدارجة "هذا الموضوع فيه لبس" أي خلط
اذن معنى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) يعنى لا تخلطوا الحق بالباطل
لأن الإنسان الكاذب، وهو يعلم أن كذبه مكشوف، يأتي ببعض الصدق، ويخلطه بكذبه، حتى يصدقه الناس في كذبه
كذلك كان يفعل اليهود، فهم يعلمون أن كذبهم مكشوف في انكار نبوة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن معه معجزات تدل على نبوته، فكانوا يقولون أن محمدًا نبى، ولكنه نبيًا للعرب فقط، وليس لكل الأمم
وكان عندهم في التوراة آيات تحذر مِنْ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةٍ يُبْعَثُونَ فِيهِمْ وَيَعْمَلُونَ الْعَجَائِبَ، فكانوا يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فيقولون أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنَ هؤلاء الْأَنْبِيَاءِ الكذبة، ويأتون ببعض صفاته التى ذكرها الله تعالى لتدل على نبوته، ويضعونها في صفات هؤلاء الأنبياء الكذبة
اذن كل هذا كان يؤدي الى البلبلة والتشويش عند الناس، فالحق –سبحانه وتعالى- يقول لهم أن كل هذه الألاعيب مكشوفة عنده، ولذلك يقول تعالى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
الحق الذي يكتمه بنو اسرائيل هي نبوة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي الآيات الدالة على نبوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه الحق، و(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه المذكور في كتبكم، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما سيصيبكم في الآخرة من العذاب يوم القيامة نتيجة كتمانكم الحق
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تقول أم المؤمنين السيدة "صفية بنت حي بن أخطب" وهي زوجة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان أبوها هو "حي بن أخطب" هو سيد "بنى النضير" وعالمهم وفارسهم، فلما هاجر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة الى المدينة ونزل بقباء وظل فيها ثلاثة أيام، لم ينتظر "حي بن خطب" حتى يقدم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى المدينة بل ذهب اليه ليراه في قباء
وتروي السيدة "صفية" هذه القصة، وكانت في ذلك الوقت طفلة صغيرة:
كنت أحبَّ ولد أبي إليه، والي عمي أبي ياسر، لم ألقهما قطّ مع ولد لهما إلاّ أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا إليه ابي، وعمي أبو ياسر مُغلّسيْن. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس قالت: فأتيا كالّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما، مع ما بهما من الغمّ، قالت: وسمعت عمي أبو ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتُثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال عداوته والله ما بقيت
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وحتى الآن عندما يتم اكتشاف نسخ قديمة من الإنجيل، نجت من التحريف، وتذكر صراحة بعثة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون الرد من القساوسة أن هذه النسخ مزيفة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)
)وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)
قلنا من قبل أن في كل موضع من القرآن العظيم يتحدث فيه الحق –سبحانه وتعالى- عن الصلاة يأتي –تعالى- بهذه التعبير وهو "اقامة الصلاة"
ولم يقل تعالى: يُصَلُّونَ، أو يَفْعَلُونَ الصَّلَاةَ، أَوْ يَأْتُونَ الصَّلَاةِ
لأن معنى يُصَلُّونَ: الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ حُقُوقِ الصلاة الظاهرة، مِنْ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ
أما "اقامة الصلاة" فهُوَ يزيد على ما سبق: التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُشُوعُ لَهُ
ومعنى الخشوع: أَلَّا يَنْطِقَ الْمُصَلِّي بِلَفْظٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَوْرِدُ مَعْنَاهُ عَلَى ذِهْنِهِ
وَلَمْ يَقُلِ: الْمُصَلِّي، إِلَّا فِي الْمُنَافِقِينَ قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)
فالذي يضيع الخشوع في الصلاة يشترك مع المنافق في هذه الصفة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم قال تعالى (وَآَتُوا الزَّكَاةَ)
والزكاة لها معنيين: المعنى الأول هو الزيادة، فكانت العرب تقول: زكا الزرع، إذا كثر، وزَكتِ النَّفقة، إذا كثرتْ، وزكا الفَرْدُ، إذا تزوج
فكأن اسم الزكاة وحده تطمين لمن يخرج الزكاة أن رزقه لن ينقص باخراج الزكاة، ولكنه سيزيد، فهو ينقص ظاهرًا ولكنه في حقيقة الأمر يزيد
ولذلك قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاثة أقسم عليهن، ثم ذكر منها: ما نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ
المعنى الثاني للزكاة هو التطهير، كما قال تعالى (أقتلت نفسًا زكية) يعنى طاهرة من الذنوب
فسميت الزكاة بذلك لأنها تطهر المال من أي شبهة مال حرام، وتطهر المزكي من الذنوب، وتطهر نفسه من البخل، وتطهر نفس الفقير من الحقد والحسد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ذكر الله تعالى الصلاة أنها عماد الدين، فلماذا اختص الزكاة بالذكر من بين باقي العبادات ؟
لأن الله تعالى قال في الآية قبل السابقة (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلًا) وقلنا أن معنى ذلك أنهم يأخذون الثمن مقابل الآيات
فالله تعالى يقول أن الصفقة الصحيحة ليست أن تأخذوا الثمن ولكن أن تدفعوا أنتم الثمن
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم قال تعالى (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)
الخطاب هنا لا يزال لليهود، واليهود لهم صلاة، ولكن صلاتهم لا ركوع فيها، فذكر الله تعالى الركوع، حتى لا يعتقد اليهود أنهم اذا صلوا صلاتهم، وأخرجوا الزكاة على شريعتهم، وآمنوا برسولهم وهو موسى، وبكاتبهم وهو التوراة، فان هذا يعفيهم أن يكونوا خاضعين للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فالله تعالى يؤكد لهم في هذه الآية أن أي عبادة لهم لن تقبل منهم الا بشرط انضمامهم الى الموكب الإيماني الجديد، وهو موكب الصحابة رضوان الله عليهم
وحتى الآن يوجد كثير من المشاهير من جميع أنحاء العالم يظهرون الإحترام للإسلام، وللرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل "برناردو شو" و"غاندي" و"تولستوي" و"توني بلير" وغير هؤلاء المئات او الآلاف
والمسلمون يكونون في قمة السعادة والتأثر عندما يقرؤا كلماتهم عن الإسلام وعن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ونحن نقول لهم أن هذا غير مقبول منكم، اذا كنتم تؤمنون أن محمد نبي، فمحمد هو الذي نقل عن ربه في سورة آل عمران (ان الدين عند الله الإسلام)
ومحمد هو الذي عن ربه هذه الآية (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)
يعنى لابد أن تكونوا من المسلمين ومع المسلمين، ولن تقبل منك صلاة ولا عبادة، الا اذا كانت صلاة المسلمين، وعلى منهج الإسلام
*********************************
|