تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السادسة والأربعون
تدبر الآية (51) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ وَاعَدْنَا( وفي قراءة (وَإِذْ وَعَدْنَا)
(وَإِذْ وَعَدْنَا) تعنى افراد الوعد من الله
أما (وَإِذْ وَاعَدْنَا( فهي مفاعلة بين اثنين: وعد من الله تعالى لموسى، ووعد أو عهد من موسى لله تعالى
ومعنى (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى) يعنى واذكروا إِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى، وهذا هو الإنعام الثالث الذي يذكره الله تعالى لبنى اسرائيل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مُوسَى) موسى بالقبطية كلمتان, يعني بهما: ماء وشجر "فمو" هو الماء, و"شا" هو الشجر، فسمي موشى، ثم قلبت الشين سينًا فسمي "موسى"
وسمي بذلك - لأن أمه لما وضعته في التابوت -حين خافت عليه من فرعون- وألقته في اليم، كما أوحى الله إليها، واليم الذي ألقته فيه هو النيل، دفعته الأمواج حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون, فخرجن جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن, فوجدن التابوت فأخذنه, فسمي باسم المكان الذي وجد فيه، كان المكان فيه ماء وشجر، فقيل: موسى، ماء وشجر.
فأما نسبه –عليه السلام- فهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)
وهذا الوعد من الله تعالى كان وعدًا من الله تعالى لموسى ولبنى اسرائيل، باعطاء موسى المنهج وانزال التوراة، ووعدًا بالكلام
لأن الله تعالى حين كلم موسى بجانب الطور، أبلغه أنه رسول، وأرسله الى فرعون ليخلص بنى اسرائيل من طغيان فرعون، وأيده بأيات ومعجزات، حتى يقتنع فرعون وقومه أن موسى رسول من عند الله تعالى، وطوال فترة بقاء بنى اسرائيل في مصر، لم يكن هناك منهج، ولم تكن التوراة قد أنزلت، كأن الله تعالى من رحمته لم يرد أن يكلفهم بمنهج وهم في هذا العذاب الشديد، ولكن بعد معجزة شق البحر، ونجاة بنى اسرائيل، كان لابد من ابلاغ بنى اسرائيل بالمنهج
ولذلك قال موسي لبنى اسرائيل إن خرجنا من البحر سالمين أتيتكم بكتاب من عند الله يبين لكم فيه ما يجب عليكم من الفعل والترك، فلما حدث معجزة شق البحر وأغرق الله فرعون، قالوا: يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود، فذهب موسى الى ربه، ومكث على الطور أربعين ليلة، وأنزل الله عليه فيها التوراة جملة واحدة، وقربه نجيا، وكلمه من غير واسطة
وكانت التوراة مكتوبة في ألواح، وقيل أنها ألواح من الزبرجد، وهي نوع من الأحجار الكريمة لونه زيتوني شفاف شديد الصلابة (أكثر صلابة من الجرانيت)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وهذه الليالي حددت أولُا كثلاثين، ثم زيدت عشرًا فأصبحت أربعين، يقول تعالى (وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)
كأن الله تعالى وعد موسى بلقاءه والتكلم معه واعطاءه التوارة بعد ثلاثين ليلة، قصام موسى هذه الأيام الثلاثين استعدادًا للقاء الله تعالى، فلما انقضت استاك موسى استعدادًا للقاء الله تعالى، فقال له الله تعالى: أما تعلم يا موسى أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فصام موسي عشرة أخري
وهذه الليالى الأربعون هي ليالي ذَا الْقَعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وبعد انقضاء هذه الليالى الأربعون التقي الله تعالى موسى، وقربه نجيًا، وكلمه، وأعطاه التوراة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وعندما يتكلم الحق –سبحانه وتعالى- عن الزمن يتكلم دائما بالليلة، لأن العرب كانت تؤرخ بالليالي، فكان أول الشهر عند العرب ليله وليس نهاره، ولذلك في رمضان نصلى التراويح في أول ليلة من ليالي رمضان قبل أن نبدأ الصيام، بينما لا نصلى التراويح في آخر يوم صيام
والسبب في ذلك أنك لا تستطيع أن تحدد الزمن عن طريق الشمس، الا للمتخصص، ولكن الشخص العادي اذا نظر الى قرص الشمس، لا يمكن أن يحدد في أي يوم من الشهر نحن، ولكن في الليل، اذا نظرت الى القمر، فستحدد في أي يوم من الشهر نحن، هل نحن في أوله أوسطه أو آخرت، فاذا كان القمر هلالا فنحن في أوله، واذا كان بدرًا فنحن في أوسطه، والبدوي في الصحراء يمكن أن يحدد اليوم بدقة بمجرد النظر، فيقول لك: هذا القمر ابن كذا ليلة
ولذلك في مقاييس الدين نجد غالبًا النهار هو الذي يتبع الليل، فنقول: ليلة القدر، وليلة النصف من شعبان، وليلة الإسراء والمعراج،
ولا يتبع الليل النهار الا في يوم عرفة فقط، وذلك لفضله
وعندما يقول تعالى (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) اشارة الى أن لقاء الله تعالى بموسى كان في الليل وليس في النهار
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)
وقصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل , وعبادته في غيبة موسى- عليه السلام- عندما ذهب إلى ميعاد ربه على الجبل , مفصلة في سورة طه، وهي سورة مكية نزلت قبل سورة البقرة
وقد ذكرت القصة هنا لمجرد التذكير بالقصة
والقصة أنه لما وصل فرعون وجيشه الى البحر ورأوه منشقًا، وأمر فرعون جيشه أن يقتحم خلف بنى اسرائيل، خافت الأحصنة أن تقتحم فأرسل الله تعالى جبريل على فرس أنثى، فلما اشتمت الأحصنة رائحة الأنثى اقتحمت البحر
وكان ممن رأي جبريل -عليه السلام- أحد أصحاب موسى وهو السامري، ورأي السامري أن الحصان الذي يركبه جبريل كلما وطأ على الأرض كلما اخضر في الحال ونبت، فقال في نفسه ان لهذا الفرس لشأنًا، فأخذ قبضة من التربة التى يدوس عليها الفرس بحافره، وظلت معه
يقول تعالى (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي(
أما كيف رأي السامري جبريل فيقولون أن جبريل عندما جاء الى البحر جاء في صورة آدمية، كما جاء الى الرسول –صلى الله عليه وسلم- في صورة أعرابي وساله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ورآه الصحابة، وهو أمر يناسيه ركوب الحصان
فلما جاء جبريل في صورة آدمية رآه السامري وأنكر هيئته فعرف أنه ملك
(عرفه ولم يعرفه بقية بنى اسرائيل لأن السامري عندما ولد كان في العام الذي يذبح فيه فرعون، فلما ولد وضعته أمه في غار وأطبقت عليه، فكان جبريل يأتيه في هذا الغار في صورة آدمية ويغذوه باصبعه، فيجد في بعض أصابعه لبنا, وفي الأخرى عسلا، وفي الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ، ولذلك عندما جاء جبريل الى البحر رآه السامري وعرفه)
وقال بعض المفسرون أن السامري لم ير جبريل، ولكن رأي أثر حافر فرس جبريل، والقرآن لم يصرح أنه قد رأي جبريل، وكان أثر حافر فرس جبريل يمكن أن يراه جميع بنى اسرائيل، ولكن السامري هو الوحيد الذي تنبه له، لأن جميع بنى اسرائيل كانوا مستغرقين في الأحداث العجيبة التى يمرون بها، من شق البحر والمرور في وسطه وكل فرق كالطود العظيم، وتتبع جيش فرعون، وغير ذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فلما ذهب موسى الى لقاء الله تعالى، قال لأخيه "هارون": اخلفني في قومي وأصلح، وكان مع بني إسرائيل حَلْي من حَلْي المصريين، اما أنهم سرقوها خلسة من المصريين بعد أن أعلمهم موسى بوقت الخروج، أو استعاروها قبل الخروج، ولم يكن موسى يعلم ذلك الأمر ولا "هارون" فلما علم "هارون" عنف بنى اسرائيل وقال لهم: أنتم قد حُمِّلتم أوزارا من زينة القوم - آل فرعون-, فتطهروا منها, فإنها نجس. وأوقد لهم نارا وقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها. حتى تأكلها النار، فأجابوه الى ذلك
فجاء أحدهم وهو "السامري" وكان عظيمًا من عظماء بنى اسرائيل، ولكنه كان منافقًا يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فألقي القبضة التى أخذها من أثر حافر فرس جبريل مع الحلي في النار، ثم صنع هو وأصحابه من المنافقين منه عجلًا فكان العجل له خوار يشبه صوت خوار العجل، وقال "هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ" يعنى نسي موسى أن يأخذه معه، فعكفوا عليه يعبدونه
وكان موسى قد وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة فكانت فتنتهم في تلك العشرة، فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ظنوا أنه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامري
وكانت فتنة بنى اسرائيل بالعجل لأنهم كانوا يعيشون في مصر، وكان الفراعنة يقدسون البقرة، فكان تقديس البقر في وجدانهم
وكان ذلك من غبائهم لأن الله تعالى نجاهم من عبدة العجل، والعجل لم ينفع من عبدوه
فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن, وقيل كان عددهم اثنى عشر ألفا، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون، إن سار بمن معه من المسلمين، أن يقول له موسى: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي، وكان له هائبا مطيعا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)
الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فكانت عبادتهم للعجل ظلمًا، لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، ولأنهم ظلموا أنفسهم
********************************
لمطالعة بقية الفصول- اضغط هنا
لمشاهدة الحلقات فيديو- اضغط هنا
*********************************
|