تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثامنة والأربعون
تدبر الآية (54) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54))
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) يعنى واذكروا إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
(يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ( يعنى ظلمتم أنفسكم بعبادتكم للعجل (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)
بعد أن التقي موسى -عليه السلام- الحق –سبحانه وتعالى- وأعطاه –تعالى- التوراة، أخبر الله تعالى موسى –عليه السلام- أن "بنى اسرائيل" وقعوا في فتنة عبادة العجل، فرجع موسى الى قومه غضبان أسفا –كما أخبر الله تعالى- وألقى الألواح وهي التى فيها التوراة، يعنى سقطت من يديه من هول ما رأي، وقال: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فقال هارون: يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي، فترك موسى هارون ومال إلى السامري, وقَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ، قال (بصرت بما لم يبصروا به.... ) الى آخر المناقشة المذكورة في سورة طه، ثم أخذ موسى العجل وذبحه ثم حرقه ثم ذراه في البحر
وأسقط في أيدي بنى اسرائيل، ورأوا أنهم قد ضلوا، وقالوا: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن الله تعالى لم يرد أن تمر حادثة عبادة العجل مرور الكرام، بل كان يجب أن يكون التكفير على هذا الذنب بفعل يضخم ويشنع في أعينهم هذا الذنب، وحتى يستقبلوا التوراة والمنهج الذي جاء به موسى بالتمسك بهذا المنهج كما ينبغي أن يتمسكوا به
فكان التكفير على الذنب بأن يقتل بنى اسرائيل بعضهم بعضا
قال موسى (يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)
واستجاب بنو اسرائيل لأمر الله تعالى وقالوا نصبر لأمر الله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كيف تم هذا الأمر ؟
أمر موسى "بنى اسرائيل" أن يقفوا صفين وحملوا السيوف والخناجر والسكاكين وأدوات القتال، استدادًا لقتال بعضهم بعضا
وقيل أن الصفين كانا: صف من الذين لن يعبدوا العجل، وصف آخر من الذين عبدوا العجل
ولكن نظر كل واحد منهم فرأي أباه وأخيه وابن عمه ورحمه فأصابهم من ذلك غم شديد، فألقي الله تعالى عليهم ظلمة شديدة، وقيل ضباب شديد، بحيث لا يري كل واحد من يقاتله
ثم أمرهم موسى بالقتال فأخذ يقتل بعضهم بعضا، وكانوا يتنادون أثناء القتال "رحم الله عبداً صبر حتى يبلغ رضا الله " وحتى كثر القتل في بنى اسرائيل، ووصل عدد القتلى الى سبعين ألف قتيل، وفي التوراة أن عدد القتلى ثلاثة آلاف، وأخذت النساء والأطفال يصرخون، ووقف موسى وهارون يستغيثان الله تعالى ويبكيان ويقولان: رَبَّنَا أَهْلَكْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رَبَّنَا الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ، وحتى قبل الله تعالى توبتهم وأمرهم بوضع السلاح، ووقف القتل
فلما رأوا كثرة من قتل أصاب موسى وبنى اسرائيل من ذلك حزن شديد، فأوحي الله تعالى الى موسى: ما يحزنك ؟ أما من قتل منكم، فهو شهيد وهو حي عندي يرزق؛ وأما من بقي، فقد قبلت توبته ! فبشر بذلك موسى بني إسرائيل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هكذا كان حكم الله تعالى حتى يكفر بنى اسرائيل عن ذنب عبادة العجل
والكفارة سميت بذلك لأنها تكفر الذنب أي تستره
والكفارة موجودة في الإسلام، فهناك كفارة القتل الخطأ، وكفارة الإفطار في رمضان، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين، وكفارة حلق الرأس في الحج
فكفارة القتل الخطأ دفع الدية لأهل القتيل وصيام شهرين متتابعين
وكفارة الإفطار في رمضان صيام شهرين متتابعين، أو اطعام ستين مسكينًا
وكفارة الظهار، وهي قول الرجل لزوجته: أنت على كظهر أمي. وهو نوع من أنواع الطلاق في الجاهلية، عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين
وكفارة اليمين اطعام عشرة مساكين
اذن الكفارة موجودة في الإسلام، ولكن الكفارة التى كتبها الله تعالى على "بنى اسرائيل" كانت قاسية وشديدة الصعوبة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا هذه التوبة القاسية والصعبة جدًا ؟
أولًا: لأن الذنب كان في القمة فلابد أن تكون الكفارة في القمة
ثانيًا: لأن "بنى اسرائيل" كانوا -كما قلنا- في بداية التكليف، وبداية استقبال المنهج، فأراد الله تعالى أن يكون التكفير على ذنب عبادة العجل بفعل يضخم ويشنع في أعينهم هذا الذنب، وحتى يستقبلوا التوراة والمنهج الذي جاء به موسى بالتمسك بهذا المنهج، والمحافظة عليه، لأن سرعة قبول الله تعالى لتوبة العبد، يجعل العبد يستسهل الذنب، بل ويغريه بالعودة للذنب مرة أخري
سبب ثالث، قاله المفسرون: لأن بني اسرائيل الذين بقوا على اسلامهم ورفضوا أن يعبدوا العجل مع من عبدوه، كان ينبغي عليهم أن يقاتلوا من عبد العجل، ولكنهم لم يفعلوا خوفًا من القتال، فكان التفكير على الذنب هو أن يقوموا بما كان يجب عليهم أن يقوموا به، وهو القتال بين بنى اسرائيل، ولذلك قيل أن القتال كان بين من عبدوا العجل ومن لم يعبدوه
سبب رابع: حتى تعلم أنت فضل الله تعالى عليك، أن شرع لك التوبة بشروط ميسرة، وهي الترك والندم والعزم، يقول على بن أبي طالب: ما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهنا قال تعالى (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) ولم يقل تعالى "خالقكم" لأن الخلق ايجاد من عدم، أما "برأ" يعنى جعله في أحسن تقويم، ولذلك قال تعالى (الذي خلق فسوي)
وكلمة "البرأ" من بري السهم لأن بري السهم يحتاج الى دقة
ولذلك نقول "براءة اختراع"
ولذلك قال موسى (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ) يعنى الحق –سبحانه وتعالى- خلقكم في احسن تقويم، فماذا صنع لكم هذا العجل
فكأن موسى يقصد بقوله "بَارِئِكُمْ" أن يوبخ بنى اسرائيل ويقرعهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
المكان الذي عبد فيه "بنى اسرائيل" العجل معروف الى الآن وقاعدة التمثال موجودة، وهي داخل حدود المملكة السعودية بالقرب من الحدود مع الأردن، وقاعدة التمثال موجودة داخل سور، والسلطات السعودية تمنع حتى الإقتراب من المنطقة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
النقطة الأخيرة، أن قصة عبادة "بنى اسرائيل" للعجل، ثم قتل "بنى اسرائيل" لأنفسهم بهذه الطريقة موجودة في التوراة والإنجيل، وليسنا بصدد مقارنة النصوص بين الكتب السماوية الثلاثة
ولكن هناك نص في التوارة التحريف فيه واضح تمامًا
فالتوارة تقول أن الذي صنع العجل بنفسه ودعا بنى اسرائل لعبادته هو "هارون" عليه السلام نفسه (!)
تقول التوراة في سفر الخروج اصحاح 32
32: 1 و لما راى الشعب ان موسى ابطا في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هرون و قالوا له قم اصنع لنا الهة تسير امامنا لان هذا موسى الرجل الذي اصعدنا من ارض مصر لا نعلم ماذا اصابه
32: 2 فقال لهم هرون انزعوا اقراط الذهب التي في اذان نسائكم و بنيكم و بناتكم و اتوني بها
32: 3 فنزع كل الشعب اقراط الذهب التي في اذانهم و اتوا بها الى هرون
32: 4 فاخذ ذلك من ايديهم و صوره بالازميل و صنعه عجلا مسبوكا فقالوا هذه الهتك يا اسرائيل التي اصعدتك من ارض مصر
32: 5 فلما نظر هرون بنى مذبحا امامه و نادى هرون و قال غدا عيد للرب
32: 6 فبكروا في الغد و اصعدوا محرقات و قدموا ذبائح سلامة و جلس الشعب للاكل و الشرب ثم قاموا للعب
32: 7 فقال الرب لموسى اذهب انزل لانه قد فسد شعبك الذي اصعدته من ارض مصر
32: 8 زاغوا سريعا عن الطريق الذي اوصيتهم به صنعوا لهم عجلا مسبوكا و سجدوا له و ذبحوا له و قالوا هذه الهتك يا اسرائيل التي اصعدتك من ارض مصر
32: 15 فانصرف موسى و نزل من الجبل و لوحا الشهادة في يده لوحان مكتوبان على جانبيهما من هنا و من هنا كانا مكتوبين
32: 16 و اللوحان هما صنعة الله و الكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين
32: 17 و سمع يشوع صوت الشعب في هتافه فقال لموسى صوت قتال في المحلة
32: 18 فقال ليس صوت صياح النصرة و لا صوت صياح الكسرة بل صوت غناء انا سامع
32: 19 و كان عندما اقترب الى المحلة انه ابصر العجل و الرقص فحمي غضب موسى و طرح اللوحين من يديه و كسرهما في اسفل الجبل
32: 20 ثم اخذ العجل الذي صنعوا و احرقه بالنار و طحنه حتى صار ناعما و ذراه على وجه الماء و سقى بني اسرائيل
32: 21 و قال موسى لهرون ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة
32: 22 فقال هرون لا يحم غضب سيدي انت تعرف الشعب انه في شر
32: 23 فقالوا لي اصنع لنا الهة تسير امامنا لان هذا موسى الرجل الذي اصعدنا من ارض مصر لا نعلم ماذا اصابه
32: 24 فقلت لهم من له ذهب فلينزعه و يعطيني فطرحته في النار فخرج هذا العجل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ومن اعجاز القرآن أنه أكد في سورة "طه" على براءة ساحة "هارون" –عليه السلام- يقول تعالى في الآية (90) من سورة البقرة (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَٰرُونُ مِن قَبْلُ يَٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوٓاْ أَمْرِى)
|