تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السابعة والخمسون
تدبر الآية (63) و(64) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ( يعنى واذكروا يا بنى اسرائيل إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
وهذا هو الإنعام العاشر على بنى اسرائيل، بعد الإجمال في قوله تعالى في الآية 47 من سورة البقرة (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)
وقلنا أن الخطاب في هذه الآيات موجه لليهود الذين كانوا موجودين في زمن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أن هذا النعم كانت لأجدادهم وأسلافهم
لأن هذه النعم وان كانت لآبائهم الا أنها وصلت اليهم، فكل امتنان عليهم هناك يعتبر امتنان عليهم هنا
فلو لو ينجي الله تعالى أسلافهم من عبودية فرعون لكانوا حتى وقت نزول القرآن لا زالوا عبيدًا عند المصريين
ولو لم ينزل الله عليهم المن والسلوي وفجر لهم عيون الماء لهلكوا من الجوع والعطش في الصحراء
وفي هذه الآية يمتن الله عليهم بأخذ الميثاق، لأنه ان كان قد بقي لهم بقية من دين في اليهودية، فهذا من أخذ الميثاق القديم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقِصَّةً هذه الآية بعد أن نجي الله تعالى بنى اسرائيل من آل فرعون بمعجزة شق البحر، ذهب موسى لميقات ربه أربعين ليلة ليتلقي التوراة، ولكن موسى –عليه السلام- عاد فوجد بنى اسرائيل قد وقعوا في فتنة عبادة العجل، فكان حكم الله عليم هو أن يقتل بعضهم بعضا حتى تاب الله عليهم
وبعد أن انتهي هذا الأمر وهدأت النفوس، بدأ موسى–عليه السلام- يقرأ عليهم التوراة، ويشرح لهم ما فيه من حلال وحرام وتكليفات
ولكن بنى اسرائيل لما قرأوا التكليفات التى في التوراة، شق عليهم الأمر ، وقالوا لا نطيق كل هذه التكاليف، ورفضوا أن يقبلوا شريعة التوراة
فأمر الله تعالى جبل الطور، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وأنزلت عليه التوراة فيها، وكانت بنو اسرائيل أسفل ذلك الجبل
فأمر الله تعالى الملائكة، وقيل أن الله تعالى أمر جبريل فرفع الجبل بطرف جناح من أجنحته الستمائة، فاقتلع الجبل من أصله، ثم حركه حتى أصبح فوق رؤسهم
ثم قيل لهم تأخذوا التوراة وتنفذوا ما فيها من تكاليف وأحكام بمنتهي الدقة، أم يسقط الجبل عليكم، فسجد بنو اسرائيل خوفًا من سقوط الجبل عليهم وأخذوا التوراة كرهًا وخوفًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ورفع الجبل معجزة كونية خارقة لا يستطيع أن يفعلها الا الله
وكثرة المعجزات التى حدثت لبنى اسرائيل تدل على ضعف ايمانهم
فكما قلنا أن كثرة أنبياء بنى اسرائيل لايدل على فضلهم ولكنه يدل على شدة فسادهم
نقول الآن أن كثرة المعجزات التى حدثت لبنى اسرائيل يدل على ضعف ايمانهم، لدرجة أنهم احتاجوا الى كل هذه الخوارق
فمثلًا لو كان موسى -عليه السلام- قد جاء بالتوارة وقبلوها، لما كانت هناك حاجة الى معجزة رفع الجبل فوق رؤسهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وبعض المفسرون عندما يأخذون في شرح هذه الآية الكريمة يقولون أن شريعة اليهود كانت شريعة ثقيلة وشاقة وصعبة، وكأنهم بذلك يلتمسون العذر لبنى اسرائيل في عدم قبول التوارة
ونقول هناك مبدأ في الشرائع التى يضعها الله تعالى للبشر، سواء كانت شريعة آدم أو نوح أو ابراهيم أو موسى أو محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا المبدأ هو قول الله تعالى في سورة البقرة (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) فالله تعالى لا يأمرنا بأمر الا اذا كان في وسعنا
البعض يقلب الآية، فعندما تقول له قال الله كذا أو قال الرسول كذا، يعتذر عن القيام بهذا ويقول (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)
ونقول هذi الآية حجة لك وليست عليك، لأن الآية معناها طالما أن الله تعالى أمرك بأمر فلابد أن هذا الأمر بوسعك، لأنه تعالى لم ولن يامرك بأمر الا اذا كان في وسعك
والخلاصة أن بنى اسرائيل ليس لهم أي عذر في عدم قبول شريعة التوراة، لأن شريعة التوراة مهما وصفت بأنها شاقة أو ثقيلة الا أنها كانت في وسعهم ومقدرتهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن بنى اسرائيل لم يقبلوا التوراة عندما جاء بها موسى، لأن نفسية اليهود نفسية متمردة لا تريد قوانين تحكمها أو قيود تحد من حريتها
وقد مررنا بموقف دخولهم الأرض المقدسة، بعد أن حقق الله تعالى لهم هذا النصر الصعب جدًا والعظيم، أمرهم أن يدخلوا الباب سجدًا أي منحنين الظهر تواضعًا لله تعالى، ويقولوا (حِطَّةٌ) أي مغفرة، يعنى اللهم حط علينا ذنوبنا، ولكن بنى اسرائيل بدلوا القول والفعل، بدلًا من أن يدخلوا سجدًا، دخلوا يزحفون على أدبارهم، وبدلًا من أن يقولوا (حِطَّةٌ) قالوا "حنطة" أو "حبة في شعرة" وكل ذلك لإرادة المخالفة، لأن الذي تركوه أيسر من الذي فعلوه
فعدم قبول بنى اسرائيل للتوراة ليس لأنها شاقة، ولكن لأنهم شعب متمرد بطبيعته
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقلنا أن هذه الآية هي الإنعام العاشر على بنى اسرائيل، فما الإنعام في رفع الجبل على رؤسهم حتى أخذوا التوراة كرها وخوفًا
نقول أن من رحمة الله تعالى بهم أن ارغمهم على قبول المنهج
كما يكتب الطبيب لإبنك على دواء مر او على حقنة، فالطفل يبكي لأنه لا يريد أخذ الحقنة، أمن رحمتك به أن تعفيه من أخذ الحقنة، أم من رحمتك به أن تجبره على أخذ الحقنة
وكذلك الحق –سبحانه وتعالى- رفع الجبل فوق رؤوس بنى اسرائيل، حتى اخذوا التوراة كرهًا وخوفًا، وهذا من رحمته تعالى بهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) و "الميثاق" هو العهد المؤكد؛ كما نقول "وثيقة تاريخية" أو "وثيقة تأمين" وسمي بذلك من الوَثاق، وهو الحبل الذي يُشد به المأسور، مثل قول الله تعالى في سورة "محمد" أو سورة "القتال" ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) وفي سورة الأعراف (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
النتق هو الهز والزعزعة والجذب
لأن هذه الجبال الضخمة التي نراها على الأرض لها امتدادات هائلة منغرسة في جوف الأرضية إلى مسافات عميقة، طولها من 10 الى 15 ضعف ارتفاعه
أعلى قمة في العالم مثلًا وهي قمة افرست ارتفاعها حوالى 9 كيلو متر، لها امتداد داخل الأرض أكثر من 130 كيلو متر
ولذلك قال تعالى في سورة النبأ (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً)
والوتد لا ينزع الا بالنتق، أي بهذين الأمرين، وهي الهز والزعزعة والجذب، والا ما كان وتدًا
ولذلك قال الله تعالى في سورة الأعراف (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) ثم قال في سورة البقرة (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)
لأنه كان هناك نتق أولًا في سورة الأعراف، وهو (الهز والزعزعة والجذب) ثم كان الرفع بعد ذلك في سورة البقرة
فكلا اللفظين يرسمان صورة دقيقة لما حدث
وذكر تعالى النتق في سورة الأعراف، والرفع في سورة البقرة، لأن سورة الأعراف مكية وسورة البقرة مدنية، فسورة الأعراف نزلت قبل سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي فوق رؤسكم الجبل، والواو هنا ليست واو عطف، لأن واو العطف تفيد الترتيب والتعقيب، فليس المعنى (أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) وبعد أن أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ رفعنا فوقكم الطور
ولكن الواو ( واو الحال) فالمعنى: وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم. فالله تعالى رفع الطور، ثم أخذ الميثاق والطور مرفوع فوق رؤسهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(الطُّورَ) هو كما قلنا جبل الطور الذي كلم الله عليه موسى، وأنزلت عليه التوراة فيها، وهو موجود في جنوب سيناء، وهو جبل ضخم ارتفاعه حوالى 2200 متر، وارتفاعه حوالى 2200 متر
وقيل أن الطور لغة هو الجبل المكسو بالخضرة، فعلى هذا قد يكون الجبل الذي رفع هو جبل الطور أو أي جبل آخر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم قال تعالى (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ)
الأخذ يدل على أنه خير
أي قلنا خُذُوا مَا أعطيناكم وهي التوارة وما فيها من شرائع وأوامر ونواهي
(بِقُوَّةٍ) يعنى لا تأخذوا المنهج بتخاذل ورخاوة، وانما خذوا المنهج بالعمل بما فيه بجد واجتهاد وعزيمة، وحزم في التنفيذ والتطبيق
وفي هذا اشارة الى أن مناهج الله لابد أن تؤخذ بقوة
وآفة الكثيرين، وان شئت قلت آفة المجتمع الآن أنهم يأخذون المنهج برخاوة، ويتهمون من يلتزم بالمنهج بالتشدد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والمعنى (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) والا أوقعنا الجبل عليكم، وفي هذا تهديد بالقتل اذا لم ينفذوا التوراة
وهذه اشارة الى أن عدمكم خيرمن بقائكم بدون هذا التكليف
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) يعنى ليس مجرد العمل بها، ولكن أيضا أن تأمر غيرك بالعمل بما فيه، وكل واحد فيكم يذكر الآخر، وهكذا فالمجتمع كله يذكر بعضه بعضا
أيضًا وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ من صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وقد تكرر كثيرًا في القرآن أمر بنى اسرائيل بذكر صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المذكورة عندهم في التوراة، لأنهم لو اعترفوا بهذا الأمر لانضموا الى الموكب الإيماني الجديد، وانتهت المشكلة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لَعَلَّكُمْ يعنى رجاء أن تصلوا الى هذه الدرجة العالية من درجات القرب من الله تعالى وهي درجة التقوي
لأن الطاعات يجر بعضها بعضا، كما أن المعاصى يجر بعضها بعضا، فلو طبقتم المنهج بقوة وحزم في التنفيذ لحققتم هذه الدرجة العالية من درجات القرب من الله وهي درجة التقوي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فلما وجد بنو اسرائيل الجبل فوق رؤسهم سجدوا لله تعالى خوفًا من سقوط الجبل فوقهم، وسجودهم دليل على قبلوهم المنهج
وعندما سجدوا سجدوا على جهة من الوجه، بينما الجهة الأخري كانوا ينظرون بها الى الجبل خوفًا من أن يقع عليهم
وبقي سجود بنى اسرائيل في صلاتهم –حتى الآن- على جهة من الوجه، حتى يكون هذا السجود بتلك الكيفية تذكير لهم بحادثة رفع الجبل فوق رؤسهم، والميثاق الذي أخذ عليهم بأن ياخذوا المنهج بقوة وجد واجتهاد وعزيمة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ثم أعرضتم
(مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) من بعد رفع الجبل وأخذ الميثاق منكم
فالمعنى أنكم رجعتم عما التزمتم القيام به من العمل بما فى التوراة.
(فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بأنه تعالى لم يعجل لكم العقوبة، بل أمهلكم، وشرع لكم التوبة، وأرسل لكم الرسل والأنبياء
وأيضًا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ببعثة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لأن الله تعالى أرسل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رحمة، يقول تعالى (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)
(لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) في الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، لأن أخسر الناس هم الكفار
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن الآية تشير الى أن بنى اسرائيل التزموا بعض الوقت، ولكن لم يلبثوا الا أن عادوا الى معصية الله تعالى
وهذه اشارة الى أن أهم من طاعة الله تعالى، هو الثبات على الطاعة
ولذلك كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثر من هذا الدعاء ((اللَّهمَّ يامقلِّبَ القلوبِ، ثبِّتْ قلبي على دينِك))؛ صححه الألباني.
|