تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة التاسعة والخمسون
تدبر الآية (66) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تحدثنا في اللقاء السابق عن قول الله تعالى في الآية (65) من سورة البقرة، وهي قول الله تعالى ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ( وقلنا أن هذه القصة وقعت في زمن داود –عليه السلام- وهو أحد أنبياء بنى اسرائيل، وقد جاء بعد موسى بأكثر من خمسمائة سنة
وقد وقعت هذه القصة في مدينة "أَيْلَةُ" وهي مدينة ساحلية تطل على خليج العقبة بالبحر الأحمر، وهي مكان ميناء "العقبة" الموجود الآن في جنوب الأردن على ساحل البحر الأحمر
وكان عدد أهل المدينة سبعون ألفًا، وكانت الحرفة الأساسية لأهل المدينة هي صيد الأسماك
وكانت شريعة اليهود تقضى بأن يتفرغوا للعبادة يوم السبت ولا يعملون فيها أي عمل
وأراد الله تعالى أن يمتثلوا أمر ذلك اليوم بابتلاء فيه، فجعل تعالى الأسماك تأتي يوم السبت بكثرة حتى تصل الى شاطيء البحر، ويرونها بأعينهم، حتى قيل أنه لا يرى الماء من كثرة الأسماك، واذا كان غير يوم السبت، لا تأتي أي سمكة
واستمر هذا الأمر فترة طويلة، حتى بدأ البعض يتحايل على أمر الله تعالى، فبدأ البعض يرمي السنانير والشباك عشية الجمعة، ويتركها تصطاد يوم السبت، ثم لا يأخذها الا يوم الأحد
وقام البعض الآخر بحفر حفر، يطلق عليها حياض الى جانب البحر، ويجعل لها جداول أو مجاري من الماء الى البحر، ثم يفتح هذه المجاري عشية الجمعة، فاذا كان يوم السبت جائت الأسماك الى الحفرة، ثم لا تستطيع أن تخرج منها، فاذا كان يوم الأحد أخذها
ونهاهم البعض وقالوا لهم أنكم صدتموه يوم السبت
فقالوا لهم: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه.
واشتد الجدال، وحدث انقسام شديد في القرية، حتى بنوا جدارًا في وسط المدينة، وسكن كل فريق في جانب وفتح له بابًا الى خارج المدينة
وبعد سنوات طويلة، وفي صباح أحد الأيام، خرج الفريق الذي لم يصطاد من باب المدينة، ولم يفتح الآخرون بابهم، فلما أبطئوا، قالوا: إن للناس لشأنا، فتسوروا عليهم الحائط، فاذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم الباب، فذهبوا في الأرض
وظلوا كذلك ثلاثة أيام، لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتناسلون، ثم ماتوا بعد ذلك، يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام"
"ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذا رد على من يقول أن القرود الموجودة الآن هي من نسل القرود التى مسخت من بنى اسرائبل
روى مسلم (2663) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أن رجلًا سأل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ هِيَ مِمَّا مُسِخَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ) والعقب: الذرية .
والعلم الحديث يؤكد أن خلق القردة والخنازير كان سابقًا على خلق الناس بملايين السنين
ومن معجزات الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انه ذكر هذه الحقيقة العلمية
لأن المسخ معناه أن يكون الإنسان بروحه في جسد القرد، فاذا كان له نسل فلن يكون قردًا كاملًا ولن يكون انسانًا كاملًا، وانما سيكون النسل انسان في جسد قرد
وهذا تعذيب لهذا الإنسان بلا ذنب، والله تعالى يقول )وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن المسخ لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتناسل حتى يموت، ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام
خلق القردة كان سابقًا على خلق الناس بملايين السنين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قبل أن نترك موضوع المسخ نذكر بأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد حذرنا بأن الأمة الإسلامية سيكون فيها مسخ أيضًا
روى الترمذي من حديث "عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَتَى ذَاكَ ؟ قَالَ إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ )
في حديث آخر (بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ مَسْخٌ وَخَسْفٌ وَقَذْفٌ)
والخَسْفٌ هو أن تنشق الأرض وتبتلع شخصا أو بيتاً أو بلدة، كما خسف اللهُ تعالى بقارون وبداره الأرض ، يقول تعالى ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ )
والمَسْخٌ –كما ذكرنا- هو تغيير الصورة الظاهرة للإنسان، قد يمسخ الى قرد الى خنزير الى كلب الى فأر الى برص الى حشرة
والقَذْفٌ هو الرمي بالحجارة ، كما فعل الله تعالى بقوم لوط ، يقول تعالى (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ )
(إِذَا ظَهَرَتْ) كثرت (الْقَيْنَاتُ) المغنيات (وَالْمَعَازِفُ) الآلات الموسيقية (وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ)
في حديث آخر (فِي أَهْلِ الْقَدَرِ) يعني المكذبين به
اذن مرة أخري الأمة الإسلامية سيكون فيها مسخ، وسيكون ذلك عقوبةً على بعض المعاصي، فلنحذر من الوقوع في المعاصى، ولا نغتر بحلم الله تعالى، ولا نغتر بامهاله، لأن الله تعالى أمهل أصحاب السبت سنوات وسنوات وسنوات، بل جيلًا بعد جيل ثم أخذهم في لحظة
(قَالَ إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66(
(فَجَعَلْنَاهَا) أي جعلنا هذه القرية (نَكَالًا) عبرة، لأن النكال هو الزجر بالعقوبة، يعنى تعاقب شخص حتى يخاف وينزجر غيره، كما قال تعالى في سورة المائدة (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
(لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) الذين كانوا في زمنهم، من الناجين وغيرهم مَنْ وَقَعَتْ فِي زَمَنِهِمْ اللى وياك (وَمَا خَلْفَهَا) لم يأتي بعدهم (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ( الى يوم القيامة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما فائدة قوله تعالى (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ( بعد قوله تعالى (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا) أليس المتقين داخلين في زمرة المعاصرين لهم ومن يأتي بعدهم
نقول أن المتقي لا يحتاج الى أن يزجر بعقوبة غيره، وانما تكفيه الموعظة، كما قال تعالى (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)
فمن كرامة هؤلاء المتقين على الله تعالى أنه لم يدخلهم في قوله تعالى (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا) وانما جعل لهم خطابًا خاصًا فقال (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والسؤال لماذا عاقب الله تعالى أصحاب السبت هذه العقوبة، وقد كانت هناك أمم لم يعجل الله لهم عقوبة لهم في الدنيا
نقول أن هناك قواعد لله تعالى يتعامل بها مع الخلق، وهي "سنن الله"
- أن الدنيا لشدة هوانها على الله تعالى، فان الله تعالى لم يجعلها لا ثوابًا لمؤمن ولا عقابًا لكافر، يقول تعالى (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
- بالرغم من أن الدنيا ليست ثوابًا لمؤمن ولا عقابًا لكافر، فان حياة المؤمن في الدنيا أفضل من حياة الكافر في الدنيا، يقول تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ويقول تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) حتى وان ظهر لك غير ذلك، فقد يكون الكافر والعاصى يتمتع بالمال والصحة والسلطة، ولكنه مهموم مغموم، والعكس قد يكون المؤمن فقيرًا مريضًا ولكنه منشرح الصدر
- لابد أن يختم للمؤمن بحسن الخاتمة، ولابد أن يختم للعاصى بسوء الخاتمة، وسوء خاتمة العاصى هي أول خطوة من خطوات عقابه يوم القيامة، وكل يوم عنده بعد ذلك أسوأ من اليوم الذي قبله قال تعالى (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً)
- قد يعجل الله تعالى جزء من عقاب العاصى والظالم والكافر في الدنيا حتى يكون عبرة لغيره وموعظة للمتقين، مثلما حدث لأصحاب السبت (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ
|