تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الحادية والستون
لماذا وضعت الآية (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) في نهاية قصة البقرة، مع أن هذه الآية هي بداية القصة ؟
والإشارة العلمية في قوله تعالى (صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قلنا في الحلقة السابقة أن قصة الآيات الكريمة: أن رجلًا من بنى اسرائيل كان غنيًا، ولم يكن له ولد يرثه، وكان له ابن أخ وارثه، فقرر هذا الفتى أن يقتل عمه ليرثه
ذهب الفتى الى عمه وطلب منه أن يذهب معه الى بعض التجار ليأخذ بضاعة منهم، وقال له: اذا رأوك معى أعطوني، فخرج العم مع الفتى ليلًا، فلما كانا قريبًا من أحد الأسباط قتله الفتى، ثم رجع الى بيته ونام، فلما أصبح قال له الناس أن عمه قد قتل، فانطلق الى ذلك السبط وأخذ يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي واعماه ! ثم طالبهم بديته، فقالوا والله ما قتلناه، فتسلح السبطان: سبط الفتى والسبط المتهم بقتل العم وكاد يقع قتال بينهم
ورُفِع الأمر الى موسى –عليه السلام- فقال الفتى: قتلوا عمي وطلب ديته، وقال هذا السبط لموسى: يا نبى الله، والله ان ديته علينا لهينة، ولكنا نستحي ان نُعَيَّر به، فادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه
فأمرهم موسى أن يذبحوا بقرة، ولو اعترضوا أي بقرة فذبحوها لأجزئتم عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، كما قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخذوا يسألون عن صفة البقرة وعن لونها وعن عملها، حتى ذكر موسى لها عشرة صفات للبقرة
ولم يجدوا الا بقرة واحدة بهذه الصفات الصعبة، وغالى صاحبها في ثمنها، فلما ذبحوا البقرة، أمرهم موسى أن يأخذوا جزءًا منها ويضربوا بها القتيل، فلما فعلوا عاد القتيل الى الحياة مرة أخري، فعين لهم قاتله، وهو ابن أخيه الذي اشتكي الى موسى، ثم عاد ميتًا كما كان، وأخذوا القاتل فقتلوه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقلنا أن قصة بقرة بنى اسرائيل ان لم تكن هي أهم قصة في القرآن العظيم فهي من أهم قصص القرآن، بدليل أن سورة البقرة وهي أطول سورة في القرآن ولها فضل عظيم سميت باسم قصة البقرة
وقلنا أن سورة البقرة فيها آية الكرسي، وهي سيدة آي القرآن، فكان الطبيعي أن تسمي سورة البقرة باسم سورة الكرسي مثلًا، ولكن الله تعالى أطلق على هذه السورة العظيمة اسم "سورة البقرة" حتى يلفتنا الى أهمية هذه القصة
وأهمية قصة البقرة تتمثل في أن القصة تتناول خطأً جوهريًا من أخطاء بنى اسرائيل، وهو التَّنَطُّعَ والتشدد
اذن وجه الِاعْتِبَارِ في القصة والذي ينبغي أن نتنبه اليه نحن كمسلمون هو ترك التَّنَطُّعَ والتشدد في الدين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن قصة البقرة تعالج أهم مشكلة تواجه المجتمع المسلم، منذ ظهور الخوارج وحتى الآن، وهي مشكلة التشدد والتعصب وظهور الجماعات التكفيرية والمعتدية، وممارساتها الوحشية، وقام الإعلام الغربي المتحيز والمملوك لليهود بتركيز الضوء على هذه الجماعات وقالوا للعالم كله أن هذا هو الإسلام
ليس هذا فحسب بل ان التشدد والتشبث بالأمور الشكلية، كان من أبرز الأسباب التى دفعت الشباب المسلم الموجود داخل الدول الإسلامية الى الإلحاد
وقلنا أن الآيات الكريمة لم تعرض المشكلة فحسب ونبهتنا اليها، ولكنها أيضًا قدمت لنا الحل
لأن كل الآيات كانت تشير الى غباء بنى اسرائيل وجهلهم، فقد سئلوا عن جنس البقرة مرتين فقالوا (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) يعنى ما جنسها مع أن موسى قال لهم أنها بقرة، كأن الله تعالى يقول لك أن السبب الرئيس للتشدد والتعصب هو الجهل
فالحل الذي تقدمه الآيات لمحاربة التشدد في الدين هو رفع الثقافة الدينية في الأمة
فاذا أردنا أن نحارب انتشار التطرف بين شبابنا، فعلينا ألا نحارب التدين، بالعكس يجب أن نعمل على رفع الثقافة الدينية في المجتمع، في المدارس والجامعات والنوادي ووسائل الإعلام وغير ذلك
ومن الأمثلة على ذلك عندما ذهب ابن عباس وناقش الخوارج استطاع أن يقنع ثلثهم بالتراجع عن أفكارهم التكفيرية وعادوا مرة أخري الى خظيرة الإسلام
قصة البقرة تعالج أهم مشكلة تواجه المجتمع وهي مشكلة التشدد والتعصب وظهور الجماعات التكفيرية والمعتدية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن لاحظنا ونحن نتدبر هذه الآيات الكريمة في الحلقة السابقة أن بداية القصة جائت في نهايتها. يقول الله تعالى في الآية (72)
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72))
ومعنى (ادَّارَأْتُمْ) يعنى كل فريق أخذ يدرأ التهمة أي يدفعها عن نفسه
هذه الآية الكريمة هي بداية القصة ومع ذلك وضعت في نهايتها، لماذا ؟
فأولًا فنيًا أو أدبيًا هذا ما يطلق عليه flashback أي: الاسترجاع أو الاستحضار الفنى، يعنى انقطاع التسلسل الزمني واستحضار مشاهد ماضية والقاء الضوء عليها، وهذه التقنية ظهرت مع السينما، ولذلك أطلق عليها الفلاش باك، ثم أخذها الكتاب بعد ذلك ووظفوها في الأعمال الأدبية، كالرواية والمسرحية وخاصة البوليسية، كما فعل "نجيب محفوظ" مثلًا في اللص والكلاب
ومن أهداف الفلاش باك هو البعد عن المط والتطويل، وليس أي كاتب يستطيع أن يستخدم الفلاش باك، فهو يحتاج الى حرفية عالية، لأنه اذا لم يحسن استخدامه سيؤدي الى ارباك المشاهد
اذن هذه التقنية الأدبية والتى ظهرت في القرن الماضى فقط، استخدمها القرآن العظيم منذ أكثر من أربعة عشر قرتًا، والعجيب أن القرآن العظيم استخدمها في حادثة قتل، وهي تستخدم الآن أكثر ما تستخدم في الروايات البوليسية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن الموضوع ليس فقط تفنن أدبي، الفلاش باك في هذه الآيات فيه أشارة في غاية الأهمية، لأن المتكلم هو الله تعالى
الفلاش باك في هذه الآيات، أو الاسترجاع أو الاستحضار الفنى اشارة الى عدم البحث أو السؤال عن العلة اذا كان الآمر هو الله تعالى
ولذلك عندما تقرأ قصة البقرة، تقرأ أوامر الله تعالى بذبح البقرة أولًا، ثم تقرأ بعد ذلك العلة في الذبح
كأن الله تعالى يقول لك:
اذا أمرك الله تعالى بأمر فنفذ الأمر فورًا ولا تتلاكأ في تنفيذ الأمر كما تلكأت بنى اسرائيل، وبعد أن تنفذ الأمر فاسأل عن العلة أولا تسأل عن العلة لا يهم، المهم أنك قد نفذت الأمر
لأن السؤال عن العلة أولا معناه أنك استقبلت الأمر صادر من مساو لك، والله تعالى ليس مساو لك
مثال: اذا قال لك زميل في العلم (تعال) فأول رد فعل أن تقول له: لماذا ؟ أما اذا قال لك رئسك (تعال) فستذهب اليه فورًا دون تسأل عن علة الأمر
وهذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن: المؤمن ينفذ أمر الله تعالى دون أن يسأل عن العلة، وغير المؤمن يسأل عن العلة، فان اقتنع بالعلة نفذ الأمر واذا لم يقتنع لا ينفذ
فالله تعالى أمرنا بعدم شرب الخمر، فنفذ المسلمون الأمر فورًا دون ان يسألوا عن العلة، ولم يعرفوا العلة الا بعد تنفيذ الأمر بأكثر من ألف سنة
وقد يأتي الآن شخص ملحد، ويعلم أضرار شرب الخمر، فيحرم على نفسه شرب الخمر
ولذلك يبدأ الله تعالى في القرآن العظيم كل تكليف بقوله (يَا أَيُّهَا الذين آمنوا) كأن علة تنفيذ الأمر هو الإيمان بالله
يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) اذن علة الصيام هي الإيمان بالله، لم يقل تعالى: يا أيها الناس الصيام مفيد للصحة، وسيعزز الجهاز المناعي، ويزيل السموم من الجسم، ويريح الجاز الهضمي، ويعالج الالتهابات
هذا هو المفهوم الإيماني الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه في قصة بقرة بني إسرائيل، حين أمر بالذبح أولًا ثم ذكر العلة من الأمر في نهاية القصة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قوله تعالى (صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) فيه اعجاز علمي
لأن الآية تشير الى تأثير الألون على الحالة النفسية للإنسان
وهذا أمر لم يكتشفه العلماء الا منذ سنوات
لدرجة أنه يوجد الآن باب في علم النفس اسمه "علم النفس اللوني" Color psychology
ويبحث هذا العلم في تأثير اللون على المشاعر والسلوك البشري، فقال العلماء مثلًا أن اللون الأبيض والأخضر يشعران بالهدوء، ولذلك الطبيب والممرضة يلبس أبيض أو أخضر
والأسود يعطي هيبة كما يلبس القاضى أو الضابط
اللون البرتقالى يفتح الشهية، ولذلك يستخدم في مفارش للمطاعم
أما اللون الأصفر فقال العلماء أنه أكثر لون يثير البهجة والسرور، لذلك يستخدم في حافلات المدارس، ويستخدم في دهان فصول المدارس، مهندسوا الديكور يستخدموا اللون الأصفر لأشاعة البهجة في المنزل
قال العلماء أن اللون الأصفر أكثر لون يثير البهجة والسرور
يستخدم مهندسوا الديكور اللون الأصفر لأشاعة البهجة في المنزل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذا هو نفس التعبير القرآني في قوله تعالى (صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)
|