تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثانية والستون
تدبر الآية (74) سورة البقرة
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا (لَمَّا) يَتَفَجَّرُ (ينفجر) مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا (لَمَّا) يَشَّقَّقُ (يتشقق) فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا (لَمَّا) يَهْبِطُ (يَهْبُطُ) مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (يعملون)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ جميع الآيات والمعجزات والكرامات التى حدثت لكم، ورأيتموها بأعينكم، من شق البحر ونجاتكم، واغراق آل فرعون أمام أعينكم، وتظليل الغمام عليكم في الصحراء، وانزال المن والسلوي، ورفع الطور فوق رؤسكم وأخذ الميثاق، ونسخ القردة والخنازير، وأخيرًا قصة بقرة بنى اسرائيل، ومعجزة احياء القتيل، وتعيينه القاتل
بعد كل ذلك تأتي هذه الخاتمة المخالفة لكن ما يتوقع ويرتقب، فيقول تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) لأن المفروض أن تلين قلوبكم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والقسوة هي الصلابة، وشبه الله تعالى قسوة قلوبهم بالحجارة لأن الحجارة لا تلين أبدًا
فالحديد مثلًا أكثر صلابة من الحجارة، ولكن الحديد يلين بالنار، ولكن الحجارة قد يتفتت ولكنه لا يلين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم قال تعالى (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)
"أَوْ" في هذا الموضع بمعنى "و" أو بمعنى "بل", فالمعنى: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ بل أَشَدُّ قَسْوَةً, كما قال تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) بمعنى: بل يزيدون.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن هذه الحجارة التى هي مضرب الأمثال في القسوة، قلوبهم أشد قسوة منها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يذكر لهم الله تعالى أدلة على لين الحجارة بالنسبة لقلوبهم، وهي أدلة من تاريخهم، فيقول تعالى (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ) فقد رأوا بأعينهم موسى -عليه السلام- وهو يضرب الحجر بعصاه، فتشقق الحجر فخرج منه الماء حتى صار أنهارًا، لكل سبط من الأسباط عين من الماء خاص به، ثم قال تعالى (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) فقد رأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول مُجَاهِدٍ، فِي هذه الآية (كُلُّ حَجَرٍ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ، أَوْ يَنْشَقُّ عَنْ مَاءٍ، أَوْ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ, فَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, نَزَلَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ)
اذن بنص الْقُرْآنُ العظيم، الحجر حين يتشقق فيخرح منه الماء، والحجر حين (يَهْبِطُ) يعنى ينزل من أعلى الجبل الى أسفله، فان ذلك من خشية الله تعالى
و(الخشية) هي شدة الخوف، فكيف يخشى جماد لا يعقل ؟
نقول أن في القرآن والسنة الصحيحة الكثير من الإشارات الى أن الله تعالى خلق في الحيوان والنبات والجماد فهمًا غير العقل، ولا يعلم هذا الفهم سوى الله تعالى
من ذلك حديث النملة والهدد في قصة سليمان في القرآن العظيم
وقوله تعالى (والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه)
وقوله تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)
وقوله تعالى (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ) كأن الجدار له ارادة
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن جبل أحد (هذا جبل يحبنا ونحبه)
وفي مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان على جبل أحد فتحرك الجبل، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "اهدأ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " كنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمكة فخرجنا في نواحيها بين الجبال والشجر، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يارسول الله ".
وكذلك حديث جنين الجذع، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان اذا خطب استند الى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر، بكت السارية حتى سمعها من في المسجد، حتى نزل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاعتنقها فسكتت
اذن هناك الكثير من الإشارات في القرآن والسنة الصحيحة الى أن الله تعالى خلق في الحيوان والنبات والجماد فهمًا غير العقل، ولا يعلم هذا الفهم سوى الله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الآية تتحدث عن قسوة قلب اليهود، وليس أدل على قسوة قلوب اليهود من جرائهم التى ارتكبوها في حق كل الأمم التى احتضنتهم وآوتهم، بدءا من دولة الخلافة الإسلامية التي أسقطوها, إلي الاتحاد السوفيتي الذي دمروه, إلي الولايات المتحدة ودول أوروبا التي حطموا كل القيم الانسانية والأخلاقية فيها ، وكذلك الممارسات الاجرامية في فلسطين، ومذابح دير ياسين، وصبرا وشاتيلا، وجنين، وبحر البقر، وغير ذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وسبب قسوة اليهود أمرين
- أولًا: بسبب كثرة الذنوب، لأن من من شؤم المعصية أنها تورث قسوة القلب
- ثانيًا: لأن نصوصهم الدينة التى حرفوها تحث على القسوة، وقد قرأنا بعض هذه النصوص في درس سابق فلا داعي لإعادتها، ولا مثلُا في التلمود (وعلى اليهودي ألاّ يسرق من يهوديّ، أما غير اليهودي فماله وعِرضه مُباحان له.. ومن المحرَّم على اليهودي أن يُنقذَ غير اليهوديّ من هلاك أو يُخرجه من حُفرة سقط فيها)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون"
ويقول تعالى "فويل للقاسية قلوبهم"
روى الترمذي عن "عبد الله بن عمر" قال : قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن أبعد الناس من الله القلب القاس"
عن أنس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أربعة من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الآية فيها العديد من الإشارات العلمية الرائعة
1- قسوة الحجارة أمر اكتشفه الإنسان مبكرُا، واستخدم الحجارة في بناء المساكن والطحن والأسلحة، وغير ذلك من الاستخدامات البدائية، ولكن لم يكن الانسان يدرك أنه يمكن تقسيم الحجارة من ناحية الصلابة، واكتشف الانسان هذه الظاهرة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأصبح هناك باب في العلم اسمه "علم ميكــانيكا الحجــارة" وبالتالى الاستفادة من الحجارة بشكل أفضل وأكبر، وقسم الحجـــارة من حيث قسوتها إلى قســـمين رئيسيين: الأول هـــو مــــا يعـــرف بالحجارة التكسرية Brittle Rocks والثاني هو ما يعرف بالحجارة اللدائنية Ductile Rocks
وأشار القرآن في هذه الآية الكريمة الى تقسيم الحجارة من حيث قسوتها، فقال تعالى (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)
2- ترتيب الانفجار ثم الانشقاق ثم الهبوط، هو ما يحدث بالفعل في الطبيعة في عديد من دول العالم
وهي من المشاكل الكبيرة التى تعاني منها الولايات المتحدة مثلًا في أكثر من ثلاثين ولاية
حيث يحدث انفجار في طبقات الحجر الرملي
ثم يحدث تشقق في الطبقات الأعلى، وهي طبقات الحجر الجيري أو الطفلى
وبعد التشقق وخروج الماء يحدث الهبوط
وهو نفس الترتيب الذي ذكره الله تعالى في الآية الكريمة
3- اللمحة الأخيرة: أن هذه المشاهد التى تصورها الآية وهي مشاهد انفجار الأحجار وتشققها بالمياه مشاهد غير موجودة بالجزيرة العربية، وهي غير موجودة الا في أجزاء من أوروبا وأمريكا، وهي أماكن لا يذهب اليها حتى التجار العرب، وهذا دليل على أن القرآن العظيم لم يأت به الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عند نفسه، وانما هو من عند الله تعالى
|