تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السادسة والستون
تدبر الآية (83) من سورة البقرة
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83))
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(
هناك في اللغة "الميثاق" وهناك "العهد"
ما الفرق بينهما ؟
العهد معروف هو الإتفاق
والمِيثَاقَ هو العهد الشديد والمؤكد تأكيدًا شديدًا
حتى قبل أن العهد اذا أوكد باليمين "ميثاق"
اذا كام لم يؤكد باليمين فهو "عهد"
ونحن في حديثنا الدارج نقول: نوثق هذا العقد في الشهر العقاري، وتقول: فاتورة موثقة من الغرفة التجارية، وشهادة موثقة من السفارة
وسمي بذلك لأنه يوثق به المعاهد، كالحبل أو الوثاق الذي توثق به الأيدي والأرجل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما هو هذا الميثاق ؟
هذا الميثاق هو التوراة التى أنزلت عليهم، وما فيها من تكليفات وأوامر ونواهي، وذكر صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أو هو الميثاق الذي أخذ على لسان موسى –عليه السلام- وغيره من أنبيائهم
أو هوالميثاق الذي أخذ عليهم عندما رفع الله تعالى فوقهم الطور
يقول تعالى في الآيتين (63) و(64) من سورة البقرة
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
فالميثاق الذي ذكر مجملًا في الآية (63) ذكرت تفاصيل بنوده في الآية (83) من سورة البقرة، لأن القرآن العظيم يفسر بعضه بعضا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يبين الله تعالى هذا الميثاق:
هذا الميثاق اشتمل على ثمانية أمور:
الأمر الأول هو قوله تعالى (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)
وقرأت (لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) بالياء، وقرأت (لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ)
وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، وأن نحلص له في العبادة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يأتي بعد ذكر حق الله تعالى، حق المخلوقين، وأول حقوق المخلوقين وأوكدها، حق الوالدين
ودائما يقرن الله تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى (أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير) وقال تبارك وتعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
لأن الله تعالى هو سبب وجود الإنسان في الحقيقة، والوالدان هما السبب المباشر لوجود الإنسان
ولأن الله تعالى لا يطلب بانعامه على عبده عوضًا، وكذلك الوالدان لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضًا
ولأمور كثيرة تحدث عنها العلماء، ولكن لنقول أن الله تعالى قرن في القرآن العظيم بين حقه وحق الوالدين للإشارة الى عظم حقهما على العبد
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
الْوَالِدَيْنِ هما الأب والأم
الإحسان هو أن تزيد على المفروض، من جنس ما افترض عليك
كما قال تعالى في سورة الذاريات (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
فكأن قوله تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أن تؤدي لهما أقصى ما تستطيع من جميع أنواع البر
لا تؤدي لهم –فقط- فرض البر، ولكن أدي اليهم احسان البر
قال ابن عباس: لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار.
وقالت عائشة: ما بر والده من شدَّ النظر إليه.
هذا الميثاق وهذا الأمر ببر الوالدين كان في التوارة، والعجيب أنه في التوراة الى الآن
"مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ يُقْتَلُ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الأمر الثالث: قوله تعالى (وَذِي الْقُرْبَى) والْقُرْبَى هي الْقَرَابَةَ
والقرابة تكون من قِبَلِ الأم؛ ومن قِبَلِ الأب
والمعنى هو الأمر بالإحسان الى الأقارب، أي أن تصلوا الرحم، وتؤدوا اليهم حقوقهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الأمر الرابع (وَالْيَتَامَى)
اليتم معناه في كلام العرب: الانفراد
واليتيم هو الي مات أبوه قبل البلوغ، فإذا بلغ الصبي، زال عنه اسم اليتم.
والمرأة تدعى: يتيمة ما لم تتزوج، فاذا تزوجت زال عنها اسم اليتم
واليتم في البهائم فقد الأم، واليتم في الطيور فقد الوالدين
اذن قوله تعالى (وَالْيَتَامَى) هو أمر بالرأفة والرحمة باليتيم
وقد حث الإسلام على الإحسان الى اليتيم، وجعل ذلك من أفضل الأعمال
روي البخاري وغيره من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بِإِصْبَعَيْهُ: أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا"
والآيات والأحاديث في فضل الإحسان الى اليتيم كثيرة لا حصر لها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالْمَسَاكِينِ) الْمَسَاكِينِ جمع مسكين، وهو اسم مأخوذ من السكون، كأن المسكين قد أسكنه الفقر، لأن الإنسان اذا كان ذو مال فانه يطغي ويتكبر
ما الفرق بين الفقير والمسكين ؟
الفقير هو الذي لايجد شيئًا من الكفاية، فالفقير اشتقاقه من "العمود الفقري" كأن عموده الفقري قد انكسر لشدة فقره
والمسكين هو الذي يملك دون الكفاية، ولذلك يقول تعالى في سورة الكهف (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر) فقال الله تعالى عنهم أنهم مساكين مع أن السفينة كانت ملكا لهم.
ولذلك قال العلماء أن "الفقراء" و"المساكين" من الأسماء التي إذا قرنت افترقت؛ وإذا افترقت اجتمعت
فكلمة "الفقراء" إذا كانت وحدها شملت الفقراء والمساكين؛ و"المساكين" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين
ولكن اذا اجتمعت الكلمتان فقلنا (الفقراء والمساكين) كما في قوله تعالى في سورة التوبة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) أصبح "الفقراء" لها معنى؛ و"المساكين" لها معنى، وهو المعنى الذي ذكرناه
لأن البعض يقول أريد أن أخرج زكاة مالى الى أسرة فقيرة جدًا لا تجد الطعام، نقول له اذا لم تجد هذه الأسرة فيمكنك أن تخرج زكاة مالك الى أسرة مسكينة تمتلك أشياء ولم يصل بها الفقر الى أنها لا تجد الطعام، ولكنها أقل من حد الكفاية
وانتبه الى أن الْمَسَاكِينُ ليسوا هم الشَّحَّاذُونَ الذين اتخذوا الشحاذة حِرْفَةً، ولكن المسكين اما غير قادر على العمل، أو أنه يعمل ويجتهد في عمله ولكن عمله لا يكفيه
روي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله (وأحسبه قال: (وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر)
فقد يقضى الإنسان حياته –والعياذ بالله- في معصية، وقد يقضيها في غفلة، ويمكن أن يقضى حيانه في أمر مفضول
اذن قوله تعالى (وَالْمَسَاكِينِ) يعنى أن تؤدوا اليهم حقوقهم التى ألزمكم الله اياها من أموالكم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن بتنفيذ أمر الله تعالى بالإحسان الى الوالدين ثم الى الأقارب ثم اليتامي ثم المساكين تتلاقي الدوائر ويتوازن المجتمع كله
فكل مسلم يبدأ بالوالدين، ثم دائرة الأقارب، ثم دائرة المساكين، فاذا وصل كل واحد رحمه، ستقل جدا دائرة المساكين، فقد تكون عائلة جميعها من الفقراء أو عدد الأغنياء قليل، فهؤلاء الذين يخرجون من دائرة الأقارب سيدخلون دائرة المساكين، وهناك عائلة عدد أغنيائها كثيرين فهؤلاء يتكفلون بمن يدخل في دائرة المساكين، وهكذا تتلاقي الدوائر ويتوازن المجتمع
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) قرأها البعض (وقولوا للناس حَسَنا) بفتح الحاء والسين.
يعنى أن تقولوا للناس الطيب من القول، وعدم الغلظة في الحديث والشدة
وأيضًا (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) يدخل فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) أي (حقًا) في أمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أنه نبي وأن صفته عندكم في التوارة كذا وكذا وكذا
أحد الصحابة وهو "أسد بن وداعة" كان اذا خرج من منزله فلا يلقى أحدًا الا سلم عليه، يهوديا أو نصرانيا فقيل له: ما شأنك ؟ فقال: إن الله تعالى "يقول (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وهو السلام
وهنا يقول تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ) لم يقل تعالى قولوا للمسلمين، ولم يقل قولوا لإخوانكم، يعنى تشمل البر والفاجر والطائع والعاصى
يقول تعالى في سورة طه ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44﴾.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الأمر السابع (وَأَقِيمُوا الصَّلَاة)
وهي الصلاة المفروضة عليهم
ودائما يأتي الأمر بالصلاة في القرآن العظيم بقوله تعالى (وَأَقِيمُوا) لم يقل الله تعالى في أي موضع (صلوا) أو (أدوا الصلاة) لأن معنى أداء الصلاة أن تتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها، ولكن اقامة الصلاة هي أن تؤدي ذلك كله ثم تزيد عليه الخشوع في الصلاة
أي أدوا الصلاة بتمام ركوعها وسجودها والخشوع فيها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الأمر الثامن (وَآَتُوا الزَّكَاةَ)
لماذا قال تعالى (وَآَتُوا الزَّكَاةَ) بعد أن قال (وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) والزكاة اما لقريب أو يتيم أو مسكين، ليدل على أنه تعالى عندما أمرك بالإحسان الى القريب واليتيم والمسكين، ليس المقصود فقط هو المواساة بالمال
ولكن الإحسان اليهم يتضمن أمور أخري كثيرة، مثل العطف عليهم، وتفقد أحوالهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)
باسلوب (الإلتفات) لأن فيها التفات من الغيبة إلى الخطاب
ومن فوائد الالتفات، صيانة المستمع من السآمة والملل من الاستمرار على منوال واحد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ)
هنا يذكر تعالى كيف كان موقفهم عندما أخذ منهم الميثاق
فقال تعالى (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) يعنى نقضتم العهد الذي أخذ عليكم ولم تعملوا به
(إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ) يعنى قليل الذي التزم بهذه البنود الثمانية
(وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) والخطاب هنا الى اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعنى أنتم ليسوا من هؤلاء القليل ولكنكم من هؤلاء الذي تولوا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقال بعض المفسرون
أن هناك فرق بين التولى وبين الإعراض، فالتولى هو ترك الشيء وراء الظهر؛ والإعراض يكون بجزء من الجسد أو بالقلب
فقد يتولى الإنسان بجسده ولكن قلبه متعلق بمن تولى عنهم
كما قال تعالى في سورة يوسف ( وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)
قد تقرض شخص مال، وأنت تعلم حاجة وعفته وتعلم أنه غير قادر على الأداء الآن، فاذا رأيته مقبل فقد تهرب من أمامه حتى لا تحرجه، فهذا تولى بنية الإقبال، وهذا تولى وليس اعراض
فقوله تعالى (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) يعنى توليتم باعارض قلبي
والذي يتولى مع الإعراض لا يرجي منه شيء
|