تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السابعة والستون
تدبر الآيات (84) و(85) و(86) من سورة البقرة
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تحدثنا في الآية السابقة عن الميثاق الذي أخذ على بنى اسرائيل، وقلنا أن هذا الميثاق قد اشتمل على ثمانية أمور، ثم يتحدث الله تعالى في هذه الآية عن بندين آخرين من بنود هذا الميثاق، فيقول تعالى:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)
لماذا لم توضع كل المواثيق في آية واحدة ؟
لأن الميثاق في الآية السابقة كان في عنصر الأوامر
والميثاق هنا في عنصر النواهي
اذن الأوامر هناك أوامر ايجابية، وهنا أوامر سلبية
وهذا التقسيم يساعد على الإستيعاب أكثر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ)
وقلنا من قبل أن معنى (وَإِذْ) يعنى واذكروا، أي اذكروا الزمن الذي حدث فيه كذا وكذا وكذا... واذكروا يا بنى اسرائيل َإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
وقلنا أن الميثاق هو: العهد المؤكد تأكيدًا شديدًا، أو العهد المؤكد باليمين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَا تَسْفِكُونَ ) وقرأت (لَا تُسْفِكُونَ ) بضم التاء، وقرأت (لَا تَسْفُكُونَ) بضم الفاء، وقرأت (لَا تًسْفَّكُونَ) بالتشديد
وسفك الدم: هو صب الدم واراقته، وهو كناية عن القتل أو القتل الشديد، لأن الدم هو ماء الحياة
والمعنى: لا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
﴿وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾
النفس من النفاسة، لأن نفس الإنسان أغلى ما فيه
والدار: هو المكان الذي يقيم فيه الإنسان، بخلاف المنزل يمكن أن يرتحل منه، وسمي دار لأنه يدور على ساكنيه
ولذلك قال تعالى (دِيَارِكُمْ﴾ ولم يقل "منازلكم" لأن المنزل اذا خرج منه الإنسان فيمكن أن ينتقل الى منزل آخر، ولكن الدار يكون الإنسان مرتبطًا به، سواء بعمل أو اعتياد أو كذا، فيكون الخروج منه أشد على النفس
والمعنى: لا يُخْرِجُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنَ الدِّيَارِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن الله تعالى قال (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)
وهل يسفك الواحد منا دمه ؟ وهل يخرج الرجل نفسه من داره ؟
استخدم الله تعالى هذا التعبير، لأن المؤمنين وحدة واحدة، والأمة الواحدة كالجسد الواحد، فمن يقتل أخيه فكأنه قتل نفسه، ومن يخرج أخيه من داره فكأنما أخرج نفسه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قال البعض أن قوله تعالى (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) لأن من يقتل أخيه، فانه يُقْتَل به قصاصًا فكأنما قتل نفسه
وقبل أن (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) نهي عن قتل النفس وهو الإنتحار
قال البعض أن قوله تعالى (وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) يعنى لا تسيئوا جوار من جاوركم، فتلجئوهم الى ترك ديارهم والخروج منها
وقال البعض لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنة التى هي دياركم
وهذه تفسيرات فيها تكلف
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) معنى: الإقرار الإعتراف والتصديق
ومعنى الشهادة الإخبار عن شيء شاهدته
فالمعنى أنكم أقررتم واعترفتم بهذا الميثاق، وأنتم تشهدون على ذلك
كما يقال الآن في القضايا
أقر فلان شاهداً على نفسه .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
عندما هاجر رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة الى المدينة، كان هناك تاريخ طويل من الحروب بين قبيلتى الأوس والخزرج، وكانت أول الحروب بين الأوس والخزرج حرب اسمها حرب "سمير" وكان سببها أن رجلًا من الأوس يقال له "سمير" فاخر رجلًا من الخزرج يقال له "كعب" وانتهي الأمر الى أن الرجل من الخزرج قتل الرجل من الأوس، ووقع القتال بين القبيلتين، وكان هذا هو بدايه العداوة ثم استمرت بعد ذلك، سلسلة طويلة من الحروب، وكان آخرها حرب "بُعاث" بضم الباء، والتى كانت أشد الحروب وأعنفها، وكانت قبل هجرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بخمسة سنوات
كان سبب حرب "سمير" أن رجلًا من الأوس فاخر رجلًا من الخزرج
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكان اليهود في المدينة يغذون تلك العداوة بين الأوس والخزرج
كانت اليهود ثلاثة قبائل، وهي: بنو قينقاع وبنو النضير وبنى قريظة، فكانت بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنى قريظة حلفاء للأوس،
فاذا نشبت الحرب بين الأوس والخزرج قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي من بنو قينقاع وبنو النضير اليهودي من بنى قريظة، ويخرجوهم من ديارهم، وينتهبون ما فيها من أثاث وأمتعة وأموال، وكل هذا حرام في دينهم وفي نص كتابهم
وبعد أن يقع البعض في الأسر يرسلون في فدائهم، يعنى يقاتلوهم ويكونون سببًا في أسرهم، وبعد ذلك يدفعون من أموالهم ليحرروهم من الأسر
لأن عندهم نص في التوراة "أيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل أسيرًا فاشتروه وأعتقوه"
كان آخر حروب الأوس والخزرج حرب "بُعاث"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولذلك يقول الله تعالى (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ )
يقول تعالى (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) ؟ ولم يقل (ثُمَّ أَنْتُمْ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) ؟
(هؤُلاءِ) للتنبيه
كما تقول لأحدهم (انت يا اللى هناك)
(تَقْتُلُونَ) وقرأت (تُقَتِّلُونَ)
(وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ) وهو الفريق الأضعف والفريق المهزوم
(تَظاهَرُونَ) وقرأت (تَظاهَرُونَ) بتشديد الظاء،
و (التظاهر): التعاون.
وأصله من الظهر، كأن كل واحد ظهر للآخر يتقوي به
و (الْإِثْمِ) هو المعصية، وهو الشيء القبيح
(وَالْعُدْوانِ ) هو التعدي بشراسة، أو هو مجاوزة الحد بشراسة
(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ )
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى تعجبًا من أمرهم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ)
((وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى) وقرأت ((وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَرَى) وهو جمع أسير
والأسير هو الذي استولى عليه عدوه
وهو من "الأسار" وهو حبل من جلد غير مدبوغ يقيد به الأسير
(تُفَادُوهُمْ) أو (تُفْدُوهُمْ) المفادة: إِعطاء شيء، وأخذ شيء مكانه
والمعنى تدفعون أموال لتخلصوهم من الأسر،
يقول مجاهد: تفديه من يد غيرك، وتقتله أنت بيدك ؟!
(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)
والاستفهام هنا للإنكار، والتوبيخ
(الْكِتَابِ) هو التوراة التى انزلت عليهم
اذن في التوارة هناك أمر ألا يقتل بعضهم بعضا، وألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم
وفي التوارة الأمر اذا كان منهم أسير أن يفدوه
كما قلنا هناك نص في التوراة "أيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل أسيرًا فاشتروه وأعتقوه"
ولذلك قال تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتاب) وهو: فكاك الأسرى.
(وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو: القتل والإخراج.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والخطأ الذي وقع فيه بنى اسرائيل أنهم حالفوا فريقين بينهما عداوة وبينهما حروب، ولذلك فهم وهم يوقعون على هذه المعاهدة يعلمون أنهم سيقاتلون اخوانهم، ويقتلونهم ويخرجوهم من ديارهم
وقد كان يمكن أن يتحالفوا مع فريق واحد، أو يتحالفوا مع قبائل أخري، ولكنهم اختاروا هذا الحلف بأنفسهم، مع علمهم أنهم بهذا الحلف سيقتل بعضهم بعضا
ولكنهم اختاروا هذا الحلف لحظ من حظوظ الدنيا، وهو أن يضمنوا الحماية اذا انتصر أي معسكر
وهو أمر يجيدونه حتى الآن، ففي قمة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السويفتى القديم، تجد هناك لوبي أمريكي ولوبي سويفتي، وحتى الآن يوجد لوبي في سوريا
وقسموا هذا التقسيم، بأن تكون بنى قينقاع وبنى النضير مع الخزرج، وبنى قريظة مع الأوس، لأن الأوس أقوي من الخزرج، وبنى قريظة أقوي من بنى قينقاع وبنى النضير، وبذلك يحدث توازن بين الفريقين، ويضعف كل فريق الفريق الآخر
وكل هذه معادلات دنيوية، لا علاقة لها بالأوامر التى أمرهم الله تعالى بها في التوارة
اختار يهود هذا الحلف ليضمنوا الحماية اذا انتصر أي معسكر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
الخزي هو الذل والهوان والصغار
لماذا ؟ لأنهم فعلوا ذلك حتى يحموا مهابتهم في الدنيا، وحتى يكون لهم عز في الدنيا
فكان الجزاء من جنس العمل
عصوا الله تعالى حتى يكون لهم عز في الدنيا، فكان الجزاء ان يكون لهم خزي في الدنيا
ودائما أذا أردت أن تصل الى حظ من حظوظ الدنيا بمعصية الله تعالى، يكون الجزاء بعكس ما أدرت أن تصل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد قلنا من قبل أن سورة البقرة، تستعرض تاريخ بنى اسرائيل وتستعرض أخطاء بنى اسرائيل، حتى نتنبه نحن ولا نقع في هذه الأخطاء
ولذلك يقول "عمر بن الخطاب" في هذه الآيات: إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
مثال 1
رجل أراد أن يكون غنيًا، وفي سبيل ذلك سرق وارتشي وكسب المال من حرام، فاما أنه لا يصل الى ما أراد أن يصل اليه، أو أنه يصبح غنيًا فعلًا، ويستمتع بأمواله سنين، ثم يصاب ابنه بالإدمان، أو يكون مسافرًا فتنقلب به سيارته، ويصبح عاجزًا، ولو لم يكن عنده أموال لما كان عند ابنه أموال، ولما اشترك في النادي الذي تعلم فيه المخدرات، أو لما كان عنده سيارة التى انقلبت وكانت سببًا في عجزه
هذا الرجل عندما يجلس مع نفسه بعد كل تلك السنوات، يقول يا لتنى ظللت فقيرًا أسكن في الحي الشعبي الذي كنت أسكن فيه متمتعًا براحة البال
فهذا الرجل أراد أن يصل الى حظ من حظوظ الدنيا بمعصية الله تعالى، فكان جزاؤه أن ما وصل اليه بمعصية الله تعالى كان نقمة عليه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
مثال 2
فتاة أرادت أن تتزوج رجلًا، وفي سبيل ذلك أوقعت بينه وبين زوجته، وخربت بيته، وفرطت في نفسها، وارتكبت معه الحرام
اما أنها لن تتزوجه بعد كل ذلك، أو أنها تتزوجه ثم يكون هذا الزواج وبالًا عليها، وتقول أن يوم زواجها منه كان أسود يوم في حياتها
فهذه الفتاة أرادت أن تصل الى حظ من حظوظ الدنيا بمعصية الله تعالى، فكان جزاؤها أن ما وصلت اليه بمعصية الله تعالى كان نقمة عليها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
مثال 3
رجل أراد أن يترقي في عمله، ويصبح وزيرًا، وفي سبيل ذلك كان ينافق، ويؤذي زميله حتى يزيحه من طريقه
اما أنه في النهاية لا يصل الى ما أراد أن يصل اليه، أو أنه يصبح وزيرًا فعلًا، ثم يتهم في قضية وتكون فضيحة له ولأسرته، ويدخل السجن
فهذا الرجل حين يفكر يقول يا ليتنى كنت موظفًا صغيرًا مغمورًا أفضل كثيرًا من الحال التى وصلت اليها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن قول الله تعالى (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) اشارة الى أن العبد اذا أراد أن يصل الى حظ من حظوظ الدنيا بمعصية الله تعالى، تكون النتيجة بعكس ما أراد أن يصل اليه
هم خالفوا التوراة، ودخلوا في هذا الحلف، الذي ترتب عليه أن يقتلوا اخوانهم، وهم يعلمون من بداية هذا التحالف أنه سيؤدي الى أن يقتل بعضهم بعضا وكل ذلك حتى يكون لهم عز في الدنيا، فكان الجزاء من جنس العمل، وكان الجزاء بعكس ما أرادوا ان يصلوا اليه، وهو الخِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وقد رأينا كيف كان خزي "بنى قينقاع" الجلاء والنفي من المدينة، وخزي "بنى النضير" الجلاء والنفي ومصاردة أموالهم وأسلحتهم، وخزي "بنى قريظة" القتل والسبي، ثم خزي يهود "خيبر" الهزيمة المريرة ودفع الجزية
كان خزي "بنى قينقاع" الجلاء والنفي من المدينة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهي اشارة أيضًا الى أن هناك عقاب على الذنب في الدنيا
لقد قلنا من قبل أن الدنيا ليست ثوابًا لمؤمن ولا عقابًا لكافر
ولكن مع ذلك هناك نوع من الثواب على الطاعة في الدنيا، بدليل قول الله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
وهناك نوع من العقاب على الذنب في الدنيا، بدليل قول الله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى )
لماذا ؟ لأن البعض لا يؤمن بيوم القيامة، فاذا أخر الله تعالى جميع عقابه على الكافر والعاصى الى الآخرة، لشقي العالم بمن لا يؤمن بالآخرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) وسمي بذلك؛ لأن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين؛ ولأنه يقوم فيه الأشهاد؛ ولأنه يقام فيه العدل.
(يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ)
(يُرَدُّونَ) وقرأت (تُرَدُّونَ)
(إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) حتى لا يتصور أحد أن هذا العذاب في الدنيا يعفيه من العذاب يوم القيامة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وقرأت (عَمَّا يَعْمَلُونَ)
وهذا تهديد ووعيد من الله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86
معنى الشراء أنك تتخلى عن شيء وتأخذ شيء
فاذا كان هناك قميص بمائة جنيه
فاذا اشتريت القميص فمعنى ذلك أن معك في يدك مائة جنيه، ثم تخليت عن المائة جنيه وأخذت القميص
والإنسان لا يشتري شيئًا الا اذا كان يعتقد أنه يأخذ أحسن مما تخلى عنه
فالذي يشتري الحياة الدنيا بالآخرة
تكون الآخرة بين يديه، أي بين يديه أن يدخل الجنة وينجو من العذاب
ولكنه يتخلى عن ذلك ليأخذ بدلًا من الدنيا
وقد أخبر الله تعالى أنهم أصابهم خزي في الدُّنْيَا
اذن الصفقة صفقة خاسرة بالكامل، هم خسروا الدنيا التى أرادوها وخسروا كذلك الآخرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)
كأن اليأس قد وصل به يوم القيامة ليس أن ينجوا من العذاب، ولكن أن يخفف عَنْهُ الْعَذَابُ
ولذلك قال تعالى في سورة "غافر" (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
ولذلك فان أشد آية في القرآن على أهل النار هي قول الله تعالى في الآية (30) من سورة النبأ (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
|