تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة التاسعة والستون
تدبر الآيتين (89) و(90) من سورة البقرة
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90
❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لا يزال الله تعالى في هذه الآيات يتحدث عن اليهود، فيقول تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) والكِتَابٌ هو القرآن العظيم
ونكَّره الله تعالى هنا للتعظيم والتَّفْخِيمِ
ثم أكد الله تعالى تعظيمه للقرآن فأضافه اليه فقال تعالى (كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) وهو التوراة والإنجيل
ومعنى مصدقًا للتوراة والإنجيل يعنى القرآن العظيم يصدق ويقر بأن التوراة والإنجيل ليسا صناعة بشرية، ولكن التوراة كتابًا من عند الله تعالى أنزله على نبيه موسى –عليه السلام- والإنجيل –كذلك- كتابًا من عند الله تعالى أنزله على عيسي –عليه السلام-
وأيضًا (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) من صفة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)
(وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بعثته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(يَسْتَفْتِحُونَ) الإستفتاح هو طلب الفتح وهو طلب النصر
فالمعنى أنهم كانوا قبل بعثته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستنصرون به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المشركين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما معنى هذا الكلام ؟
نحن نعلم أن ابراهيم –عليه السلام- رزقه الله –سبحانه وتعالى- باسماعيل واسحق، وكان اسماعيل –عليه السلام- نبيًا، وكان كذلك اسحق –عليه السلام- نبيًا، وزرق اسحق بيعقوب، ويعقوب هو اسرائيل، وذريته هم بنو اسرائيل
وكل الأنبياء الذين جائوا بعد ذلك كانوا من بنى اسرائيل
اذن كل الأنبياء جائوا من نسل اسحق –عليه السلام- ولم يأت نبيًا واحدًا من نسل اسماعيل –عليه السلام-
ونحن نعلم أن صفة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مذكورة في التوراة وفي الإنجيل قبل تحريفهما بمنتهي الدقة، كما قال تعالى (يعرفونه كما يعروفون أبنائهم) سواء صفاته الخلقية، او صفاته الخلقية، الشيء الوحيد الذي لم يذكر في التوراة هو نسب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يذكر في التوراة انه (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الذي يصل نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام..) هذا غير موجود في كتبهم، ولذلك كان اليهود يتوقعون توقعًا ليس فيه أي شك أن نبي آخر الزمان، المذكورة صفته في كتبهم بمنتهي الدقة سيكون من بنى اسرائيل
وكانوا ينتظرون هذا النبي –كما يقولون- على أحر من الجمر، لأن العرب في الجزيرة، كانوا أكثر عددًا من اليهود، وكانوا مستعلين عليهم، فكانوا ينتظرون هذا النبي حتى ينتصروا به على العرب، وكانوا لا يتوقفون عن قولهم لأعدائهم منه المشركين وللأوس والخزرج في المدينة (قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود)
(قد أظل زمان نبي فنقتلكم معه قتل عاد وثمود)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذا هو قول الله تعالى (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: يستنصرون به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المشركين
فلما بعث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووجدوا أنه من العرب، من نسل اسماعيل، كان الأمر بمثابة الصدمة بالنسبة لهم، فكفروا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجحدوا كل ما كانوا يقولوه فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
روي ان مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، وَدَاوُدُ بْنُ سَلَمَةَ: يَا مَعْشَرُ يَهُودَ، اتَّقُوا اللَّـهَ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَـا بِمُحَمَّدٍ، وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَتُخْبِرُونَـا بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ وَتَصِفُونَهُ بِصِفَتِهِ، فَقَالَ سَلامُ بْنُ مِشْكَمٍ من "بَنِي النَّضِيرِ": مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، مَا هُوَ بِالذي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ
يَا مَعْشَرُ يَهُودَ، اتَّقُوا اللَّـهَ
مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، مَا هُوَ بِالذي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تروي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب زعيم يهود بني قريظة فتقول: "كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين..
قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو ؟ قال: نعم والله!
قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت
قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)
اللعنة: هي الطرد، والإبعاد عن رحمة الله
ولم يقل الله تعالى لعنة الله عليهم وانما قال (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) حتى يذكر علة اللعن، يعنى لعنة الله عليهم بسبب كفرهم، وهكذا ذكر اللعن وعلته في جملة واحدة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ)
"بئس" فعل يعنى الذم
كما أن "نِعْم": فعل يعنى المدح
مثال: نقول: نعم الرجل: مدح
ونقول: بئس الرجل: ذم
و "ما" اسم موصول بمعنى الذي
اذن قوله تعالى (بِئْسَمَا) كلمتين ولكنهما مكتوبتان في كلمة واحدة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)
هناك "اشتري" وهناك "شري"
"شري" تأتي غالبًا بمعنى باع، مثل قوله تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ) يعنى باعوه بثمن بخس أي زهيد
كلمة "اشتري" تأتي بمعنى الشراء وتأتي بمعنى البيع
لأنك اذا قمت بأي عملية تجارية، فأنت بائع ومشتري في نفس الوقت، والطرف الآخر بائع ومشتري في نفس الوقت
لأن معنى اشتري الشيء يعنى اختار الشيء
ومعنى باع الشيء أي تخلى عن الشيء
مثال: اذا اشتريت قميص بمائة جنيه مثلًا
فأنت في الحقيقة اشتريت القميص، وبعت المائة جنيه، لأنك اخترت القميص وتخليت عن المائة جنيه، فأنت بائع ومشتري في نفس الوقت
والطرف الآخر: باع القميص، واشتري المائة جنيه، لأنه تخلى عن القميص واختار المائة جنيه، فهو بائع ومشتري في نفس الوقت
ولذلك كلمة الشراء في اللغة تأتي اما بمعنى الشراء واما بمعنى البيع، على حسب سياق الحملة
فهنا كلمة الشراء بمعنى البيع
فعندما يقول الله تعالى (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)
يعنى (بِئْسَ الذي باعوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي باع نفسه واشتري الكفر
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) وهو القرآن العظيم، وهو الإيمان بالرسول
(بَغْيًا) حسدًا
البغي هو: الفساد
تقول العرب: بغى الجرح أي فسد الجرح
ولذلك يقولون على المرأة الداعرة "بغى" لأنها مفسدة
هنا يقول تعالى (بَغْيًا) أي حسدًا، لأن الحاسد مفسد أيضًا بتمنيه زوال النعمة من المحسود وسعيه لتحقيق ذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَنْ يُنَزِّلَ) وفي قراءة (أَنْ يُنْزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)
اذن المشكلة عندهم ليست في المنهج ولا في القرآن، ولكن المشكلة فيمن نزل عليه القرآن أنه من العرب وليس من بنى اسرائيل
(فَبَاءُو) بَاءُو يعنى رجعوا، وهي تستعمل للشر غالبا
(بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ)
الغضب الأول هو كل تاريخهم الطويل في البعد عن منهج الله تعالى، منذ عبادة العجل، ثم قولهم أرنا الله جهرة، وتكذيبهم وقتلهم الأنبياء
والغضب الثاني هو رفضهم للإسلام وكفرهم بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
اذن كانت عندهم الفرصة في التوبة والنجاة من غضب الله عليهم، ببعثة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنهم أضاعوا هذه الفرصة السانحة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ)
يعنى عذاب ذو اهانة واذلال
لأن الجزاء من جنس العمل، هم استكبروا عن اتباع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فكانت عقوبتهم يوم القيامة عقوبة ذات اهانة واذلال
|