تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الرابعة والسبعون
تدبر الآيتين (102) و(103) من سورة البقرة
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية الكريمة مرتبطة بالآية السابقة، فقد قال الله تعالى في الآية السابقة (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
والمعنى أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما جاء بالقرآن العظيم، وجد اليهود أن القرآن العظيم موافقًا للتوارة التى في أيديهم، سواء في أساسيات العقيدة، أو في صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقلنا أنه كان يجب على اليهود أن يفرحوا بهذا القرآن الذي جاء موافقًا لما في أيديهم من التوراة، ولكن العكس هو الذي حدث، ذلك أنهم نبذوا التوراة وراء ظهورهم
ثم في هذه الآية الكريمة، يذكر الله تعالى ما الذي اتبعوه، وما الذي تمسكوا به بعد أن نبذوا التوراة، فقال تعالى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)
اذن النبذ في الآية السابقة، يقابله اتباع في هذه الآية
لأن النبذ –كما قلنا- طرح وترك والقاء، والإتباع ذهاب وتمسك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما قصة هذه الآية ؟
هناك الكهانة، وهناك السحر، ما هي الكهانة ؟ وما هو السحر ؟
الكاهن أو العراف هو الذي يخبر عن المستقبل، كلمة الكاهن من "التكهن" بالأمور المستقبلية، والعراف من "معرفة" المستقبل، وهذا الكاهن أو العراف يكون على اتصال بالشياطين، والشيطان هو الجن الكافر، لأن الجن منهم المؤمن والكافر، والكافر من الجن هو الشيطان، ولذلك يقولون أن الشياطين هم "مردة الجن" يعنى المتمردون على منهج الله، وكل متمرد على منهج الله فهو شيطان، سواء شيطان انس أو شيطان جن.
وقد مكن الله تعالى الشياطين –قبل بعثة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الإستماع الى أوامر الله وهي تلقي الى الملائكة، فكان هؤلاء الشياطين، ينقلونها الى الكهان ويضيفون اليها عدد من الأكاذيب، كما يقول ابن عباس "يكذب مع كل خبر سبعين كذبة" وقال مجاهد "مع كل كلمة مائتين كذبة" ثم يأتي الكاهن فيضيف اليها من الأكاذيب ما شاء، فاذا وقع الشيء المطابق يغتر الناس به، وينسون الأكاذيب
فلما بُعِّثَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امتنع ذلك عليهم، يقول تعالى في سورة الجن (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً) أي أن الشياطين كانت لها أماكن في السماء تقعد فيها لتستمع إلى الأوامر التى تنزل من السماء الى الملائكة ليتم تنفيذها
ثم يقول تعالى (وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) يعنى لما بعث الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصبح هناك حراس أشداء، وأصبحت هناك شهب تحرق من يقترب، ولذلك فإن عامة الناس حين يرون شهابا يحترق في السماء يقولون: سهم الله في عدو الدين..
ثم تعترف الجن بالحقيقة فيقولون
(وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)
اذن الكاهن أو العراف الذي كان يصل اليه قبل بعثة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقيقة واحدة، وقد خلطها الشيطان بسبعين أو مائتين كذبة، ثم يخلطها هو بما شاء من الأكاذيب، أصبح بعد بعثة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يصل اليه أي شيء من الحقيقة.
ثم أخبر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن من يأتي عرافًا وصدقه بما يقول فقد كفر - لأن الله تعالى يقول ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)- واذا لم يصدقه لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا
ولذلك قراءة ما يطلق عليه "حظك اليوم" أو "حظك هذا الأسبوع" في الجرائد والمجلات أمر في غاية الخطورة، لأنك لو صدقته فهذا كفر، ولو قرأته على سبيل التسلية، فهو أيضًا أمر خطير، ومعصية كبيرة، ولن تقبل لك صلاة أربعين يومًا، أي مائتين صلاة
والبعض يقول لك: أنا أقرءها على سبيل التفاؤل، وهذا أيضًا خطير لأن التفاؤل معناه أنك تصدق هذا الكلام
أخبر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن من يأتي عرافًا وصدقه بما يقول فقد كفر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما هو السحر؟..الكلمة مشتقة من سحر، وهو آخر ساعات الليل وأول طلوع النهار، حيث يختلط الظلام بالضوء ويصبح كل شيء غير واضح، هكذا السحر شيء يخيل إليك أنه واقع وهو ليس بواقع
فالسحر في الحقيقة، هو سحر للعين، أي القدرة على التخييل، بحيث تري الشيء على غير حقيقته، ولكنه لا يغير طبيعة الأشياء، يعنى مثلًا تري قطعة من الحديد على أنها قطعة من الذهب، ولكنه ليس ذهبًا في الحقيقة
كما تري السراب ماء وهو ليس كذلك.
ولذلك قال الله تعالى على سحرة فرعون في سورة الأعراف (سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) وفي سورة طه (قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى)
وقيل أن ذلك يكون ببعض الحيل، وقد رأينا على اليوتيوب منذ حوالى ثمانية سنوات، عدة تجارب مصورة، لهواة غربيين يستخدموا مادة كيماوية وهي "ثيوسينات الزئبق الثنائي" ينتج عن حرقها مادة رغوية تتنامي كأنه ثعبان، حتى أن المتداولين أسموها على النت "خدعة سحرة فرعون" أو "ثعبان فرعون" وانتشرت في المتاجر كلعبة للأطفال، حتى أدرك الناس تأثيرها السام
فقيل أن سحرة فرعون كانوا يعمسون حبالهم وعصيهم بهذه المادة الكيماوية، لاسيما أن الفراعنة كانوا متفوقين في علم الكيمياء
فلما ألقى موسى عصاه وتحولت الى حية، وأكلت جميع الحيات، سجد السحرة لله تعالى وقالوا (آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى) لأنهم علموا أن هذا ليس سحرًا، لأنهم يعلمون أن الساحر يمكن أن يسحر أعين الناس، أو أن يقوم بخدعة كيماوية، ولكن لا يستطيع الساحر أن يجعل العصا حية حقيقة تلتهم بقية الحيات، وهكذا أدركوا أن ما فعله موسى ليس سحرًا ولكنه معجزة
اذن السحر لا يستطيع أن يغير طبيعة الأشياء، والا استطاع الساحر أن يحول الأحجار الى ألماظ، والحديد الى ذهب، والورق الى نقود، ولكن هذا لا يحدث أبدًا بدلبل أن السحرة دائمًا فقراء، ويعتمدون فى رزقهم على غيرهم من البشر الذين لا يشتغلون بالسحر، ويظل الساحر يبحث عن شخص يحتال عليه ويغريه بأنه يستطيع أن يفعل له أشياء، حتى يأخذ منه أي شيء
السحر هو سحر للعين، ولكنه لا يغير طبيعة الأشياء
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكان السحر موجودًا قبل سليمان –عليه السلام- بدليل قصة سحرة فرعون، وقبل ذلك قالـت "ثمود" قوم "صالح" على نبيهم "صالح" (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي المسحورين، وكان "صالح" قبل الميلاد بحوالى ثمانية قرون، بعد "نوح" وقبل "ابراهيم" عليهم وعلى نبيا الصلاة والسلام
فلما جاء سليمان، أعطاه الله تعالى خصوصية لم يعطها لأحد لا من قبله ولا من بعده، وهي تسخير الجن سواء كان مؤمن أو كافر، ومعنى تسخير الجن له، انه –عليه السلام- بستطيع أن يستخدم الجن فيما يشاء من أعمال، ومن لا يلتزم يعاقب على عدم التزانه
يقول تعالى ( وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ)
ويقول تعالى ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ )
ويقول تعالى (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين) .
والمقصود بـ (الْعَذَابِ الْمُهِين) هو العمل المرهق الشاق
ولذلك في الحديث أن شيطانًا عرض للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأمسكه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم قال "ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه ، فذكرت قول سليمان عليه السلام : "رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي".
اذن السحر كان موجودًا ومنتشرًا قبل سليمان، فلما جاء سليمان –عليه السلام- وبعث، واستجاب الله تعالى لدعائه (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) توقفت جميع أنواع العرافة والكهانة والسحر، لأن جميع الشياطين كانت مسخرة لسليمان، ومن يخالف أمره يعاقب وبشدة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فلما مات سليمان أرادت الشياطين أن تثأر من سليمان، فوسوست شياطين الجن الى أوليائهم من شياطين الإنس أن يكتبوا كتابًا في السحر، جمعوا فيه كل علوم السحر الموجودة في ذلك الوقت، ثم كتبوا على الكتاب: "هذا ما قَالَ آصِفُ بن برخيا كَاتِبُ الملك سُلَيْمَانَ بن داود من ذخائر كنوز العلم" وختموا عليه بخاتم يشبه خاتم سُلَيْمَانَ
وانتشر هذا الكتاب في السحر بين الناس، وقالوا أن سليمان كان يتحكم في الجن عن طريق هذه الطلاسم والتعاويذ، وقالت اليهود أن سليمان لم يكن نبيًا وانما كان ساحرًا
فلما بعث الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذكر القرآن العظيم أن سليمان -عليه السلام- كان نبيًا ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) ، بل وذُكَّره القرآن العظيم سبعة عشرة مرة، قالت اليهود: انظروا الى محمد ! يخلط الحق بالباطل، ويقول أن سليمان كان نبيًا، وانما كان ساحرًا، يركب الريح، وكان يستعبد الناس ويقهرهم بسحره
فنزلت هذه الآية الكريمة ببراءة سليمان –عليه السلام-
قالت اليهود أن سليمان كان يتحكم في الجن عن طريق الطلاسم والتعاويذ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
نقرأ في كتب التفاسير، أن السحر كان منتشرًا قبل سليمان، فلما بعث سليمان جمع كل كتب السحر ووضعها فِي صُنْدُوقٍ ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلا احْتَرَقَ، فلما مات سليمان، تمثل شيطان على صورة إنسان، فأتى نفرًا من عصاة بني إسرائيل، وقال لهم: هل أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزٍ لَيْسَ لَهُ مِثْلُهُ ؟ قَالُوا: نعم ! قَـالَ: تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، ودلهم على مكان الكتب، وقال لهم: إن سُلَيْمَان تملككم بِهَذَا الكتاب
هذه القصة منتشرة في كثير من كتب التفسير، وهي قصة فيها كثير من الحلقات المفرغة، فلماذا دفن سليمان الكتب ولم يتخلص منها بالحرق مثلًا، ولماذا لم تكتب نسخ أخري بعد جمعها، وكيف تمثل الشيطان في صورة انسان
ان ما نعرفه هو أن الشيطان يوسوس للأنسان، وهذا ما نقول به أن الشيطان وسوس لأوليائه من شياطين الإنس في أن يكتبوا كتابًا في السحر ثم ينسبونه الى سليمان
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والعجيب أن بعض المسلمين الى الآن يتداولون مثل هذه الكتب، ويصدقون أن سليمان كان يتحكم في الجن عن طريق هذه الطلاسم والتعاويذ، ومثل هذه الكتب وغيرها يحرم شرائها أو بيعها أو قراءتها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ)
(تَتْلُوا) تقرأ، كما تقول: "فلان يتلو القرآن", يعنى فلان يقرأ القرآن
(عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)
أي: في مُلْكِ سُلَيْمَانَ
وذلك أن العرب تضع " في" موضع "على" و "على" في موضع "في"
كما قال تعالى (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ (أي: على جذوع النخل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)
الآية تنفي الكفر عن سليمان، مع أن المقصود هو نفي السحر عن سليمان، ليدلك على أن السحر كفر
فتعلم السحر كفر، وتعليمه كفر، والعمل به كفر
لأن السحر لا يكون الا بتعظيم الشياطين والكفر بالله، وأول خطوة من خطوات تسخير الشيطان –وهو تعبير ليس صحيحًا والحقيقة هو أن الشيطان هو الذي يسخرك وليس العكس- هو أن يطلب منك عملًا كافرًا، وهو أن يطلب منك أي تصرف فيه اهانة للقرآن العظيم.
اذن قوله تعالى (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) يعنى ما تعلم سليمان السحر وما علمه ولا عمل به
السحر لا يكون الا بتعظيم الشياطين والكفر بالله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ليس هذا فحسب، بل ان الآية تبرأ سليمان مما نسب اليه في التوراة، من الكفر بالله
في سفر الملوك الأول- الاصحاح 11 الآية 1- 13:
"واحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موابيات وعمونيات وادوميات وصيدونيات وحثيات، من الامم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون اليهم وهم لا يدخلون إليكم، لأنهم يميلون قلوبكم وراء الهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة. وكانت له سبع مئة من النساء السيدات، وثلاث مئة من السراري فامالت نساؤه قلبه، وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه املن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب الهه كقلب داود ابيه، فذهب سليمان وراء عشتروث الاهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه، حينئذ بنى سليمان مرتفعة (هيكل أو بيت عبادة) لكموش رجس الموابيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون، وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لالهتهن.
فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين، واوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى فلم يحفظ ما اوصى به الرب. فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلك عندك ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي اوصيتك بها فاني امزق المملكة عنك تمزيقا واعطيها لعبدك. إلا اني لا افعل ذلك في ايامك من أجل داود ابيك بل من يد ابنك امزقها. على اني لا امزق منك المملكة كلها بل اعطي سبطا واحدًا لابنك لاجل داود عبدي ولاجل أورشليم التي اخترتها.
اذن قوله تعالى (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) نفت عن سليمان أمرين: الكفر بالله الذي نسبه اليه اليهود في التوراة، ونفت عنه العمل بالسحر والذي هو كفر كلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)
(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) أَيْ هُمُ الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا من السحر
(وَلَكِنَّ) تنفي الخبر السابق وتثبت الخبر المستقبل
فنفت الكفر عن سليمان وأثبتت الكفر للشياطين
) الشَّيَاطِينَ( شياطين الجن وشياطين الإنس الذين تعلموا السحر وعلموه وعملوا به
شياطين الجن وشياطين الإنس الذين تعلموا السحر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)
(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ويعلمون الناس أيضًا مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
(بِبَابِلَ) وهو المكان الذي نزل فيه الْمَلَكَيْنِ، وهو مدينة في العراق
ثم قال الله تعالي أسماء ملكين وهما (هَارُوتَ وَمَارُوتَ)
(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ) الملكان
(حَتَّى يَقُولَا) قبل أن يعلماه
(إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) يعنى نحن اختبار وامتحان
والفتنة من الفتن، والفتن هو ادخال الذهب في النار لتنقيته، ولذلك فهذه الامتحانات التى نمر بها في الحياة هى لتنقية الإنسان من الذنوب ولاكتشاف معدنه، وكذلك الفتن التى تمر بها الأمة هي لتنقية الأمة وكشف معادن أفراده
(فَلَا تَكْفُرْ) يعنى اذا عملت بهذا السحر فهذا كفر بالله تعالى
والمعنى أن الله تعالى أنزل بمدينة بابل بالعراق ملكين، واسمهما: هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وهذان الملكان كانا يعلمان الناس السحر، وقبل أن يعلما أحد كانا يحذرانه تحذيرًا واضحًا وصريحًا ويقولان له، نحن اختبار وامتحان لك، فلا تعمل بها السحر، فانك اذا عملت به فهذا كفر بالله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل أنهما كانا يعلمان الناس السحر، حتى يعرف الناس الفرق بين السحر والمعجزة، لأن السحر كان منتشرًا، فاذا أتي النبي وجاء بالمعجزة، قال الناس أنه ساحر، ولا يستطيع أن يفرق بين السحر والمعجزة الا من تعلم السحر، ولذلك عندما ألقي موسى –عليه السلام- عصاه وحدثت المعجزة، الذين أدركوا أنها معجزة وليست سحرًا هم السحرة، ولذلك آمنوا على الفور
اذن قوله تعالى (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) معناه: نحن نعلمك لكل تعرف الفرق بين السحر وبين المعجزة، فاياك أن تعمل به، فانك ان عملت به فقد كفرت
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هناك أيضًا كثير من القصص عن "هَارُوتَ وَمَارُوتَ" فروي أنه في زمن "ادريس -عليه السلام- وقيل أنه في زمن سليمان –عليه السلام- لما كثرت خطايا بنى آدم، قالت الملائكة: يا رب هؤلاء بنو آدم الذين خلقت بيدك، وأسجدت لهم الملائكة، يارب كيف صبرك عليهم ؟! فقال تعالى: أما أني لو أنزلت في قلوبكم الشهوة والشيطان لفعلتم مثلهم، قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا ! فأوحي الله اليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم وأجعل في قلوبهم الشهوة والشيطان ، فاختاروا "هَارُوتَ وَمَارُوتَ" وأحل لهما كل شيء الا خمسة أشياء: ألا يشركا بالله ولا يسرقا ولا يزنيا ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا، فلما نزلا عرضت لهما امرأة جميلة، فارادا أن يزنيا بها فقالت: اختارا إحدى ثلاث: إما أن تعبدا الصنم, أو تقتلا النفس, أو تشربا الخمر، فقالا: أهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا حتى ثملا، ثم زنيا بها، ثم مر بهما انسان فرآهما وخشيا أن يفتضح أمرهما فقتلاه، فلما رآهما الملائكة، قالوا سبحانك أنت أعلم، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، وهما يعذبان الى الآن، ومسخت هذه المرأة الى كوكب الزهرة
وهذه القصص وغيرها لم تقل بها الآية الكريمة، فالآية تقول أن الملكين "هَارُوتَ وَمَارُوتَ" كانا يعلمان الناس السحر " فِتْنَةٌ" أي اختبار وامتحان، ويحذرون كل واحد يتعلم منهم السحر، ويقولان له (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ)
ولكن تحدث بهذه القصة كثير من التابعين كمجاهد وقتادة والحسن البصري وغيرهم، وموجودة في كل كتب التفسير، وهي راجعة الى أخبار بنى اسرائيل، كما أن فيها عدة آثار أصحها حديث مرفوع رواه أحمد في مسنده وابن حبان
(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا) يعنى الناس يتعلمون من الملكين
(مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) هذا هو أحد أمثلة السحر الذي يتعلمونه، وهو التفريق بين الرجل وزوجته بالقاء البغضاء والكراهية في قلب كل منهم، وقد ذكر لأنه أسوأ ما يقوم به الساحر
وهذا يثبت العلاقة الوثيقة بين الشيطان وبين الساحر، ففي الحديث ان الشيطان يضع عرشه، ثم يبعث سراياه، ويجيء أحدهم ويقول له: ما زلت بفلان حتى شرب الخمر، فيقول له الشيطان: ما صنعت شيئًا، ثم يجيء آخر: ما زلت بفلان حتى زني فيقول له: ما صنعت شيئًا، حتى يأتيه واحد ويقول: ما تركت فلان حتى طلق امرأته، فيقربه ويدنيه ويضع تاج على رأسه ويقول له: أنت ذاك، لأن الطلاق يترتب عليه ما لا يحصى من المفاسد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يطمئننا الله تعالى ويقول (وَمَا هُمْ) أي المتعلمون السحر
(بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) مِنْ للتوكيد، يعنى لا يمكن للساحر لأن يضر أي أحد (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي بارادته وقضاءه
فالسحر سبب، مَنْ شَاءَ اللَّهُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لَمْ يُسَلِّطْ، فلا يضر الا بأذن الله وبارادته
كما يمكن أن يسلط الله تعالى ميكروب على انسان، فهذا الميكروب سبب، من شاء الله تعالى سلطه على انسان فمرض، وان شاء عافاه ولم يسلطه، فهذا الميكروب لا يضر الا باذن الله
اذن الآية تشير الى أن من يبتلى بهذا الأمر وهو السحر أن يلجأ الى الله تعالى
(وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَيَتَعَلَّمُونَ) هؤلاء الذين يتعلمون السحر
(مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) مَا يَضُرُّهُمْ في الآخرة، لأن السحر كفر، والكفر يؤدي الى الخلود في جهنم
(وَلَا يَنْفَعُهُمْ) في الدنيا، يعنى السحر لا يمكن أن ينفع أحد لا الساحر ولا غيره
اذن فالآية تشير الى أمر في غاية الأهمية، وهو أن قدرات الساحر محدودة في الضرر فقط، فالساحر لا يستطيع -كما يحاول أن يوهم ضحاياه- أن ينفع أحد، والا نفع نفسه، ونحن دائمًا نجد الساحر فقير، مريض، مضطرب الأحوال، لأن الساحر يستعين بشيطان، والشيطان لا يمكن أن ينفعك ولو على سبيل الإستدراج
فقد يأتي لك بكوب ماء مثلًا، وهذا لا شيء فيه لأنك تستطيع أن تقوم لتأتي لنفسك بكوب من الماء، ولكن اذا كنت في الصحراء ومشرف على الموت عطشًا فيستحيل أن يأتي اليك بكوب من الماء، واذا كنت عاجزًا لا تستطيع أن تقوم لتأتي لنفسك بكوب من الماء، فيستحيل أن يفعل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَقَدْ عَلِمُوا) هؤلاء المتعلمون
(لَمَنِ اشْتَرَاهُ) من بمعنى الذي (اشْتَرَاهُ) يعنى الذي اشتري واختار السحر أي تعلمه واستخدمه
(مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ) أي مَا لَهُ يوم القيامة
(مِنْ خَلَاقٍ) الخلاق هو ما اكتسبه الانسان من الخير، اذن ليس له عند الله أي نصيب من الخير
(وَلَبِئْسَ ) كلمة جامعة للذم
(مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي باعوا به أنفسهم
(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أثبت لهم العلم في نفس الآية فقال (وَلَقَدْ عَلِمُوا )، ثم نفي عنهم العلم فقال (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ليشير الى أن العالم اذا لم يعمل بعلمه كان كالجاهل الذي لا يعلم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
المعنى: لو أن الذين يتعلمون من الملكين السحر (آَمَنُوا) يعنى صدقوا الله ورسوله، واشارة مرة أخري الى ان تعلم السحر كفر بالله تعالى، لأنه جعل المقابل للعمل بالسحر هو الإيمان بالله
(وَاتَّقَوْا) يعنى عملوا بما يقتضيه هذا الإيمان من تقوي الله تعالى، أي تجعل بينك وبين عذاب الله تعالي وعقابه وقاية
(لَمَثُوبَةٌ) أي ثواب
والثواب من "ثاب اليه الشيء" أي رجع و"ثاب الى رشده" أي عاد الى عقله
فثواب الله تعالى، اعطائهم الجزاء الحسن حين يعودون اليه يوم القيامة
(خَيْرٌ) من السحر
(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) اذن نفي العلم عنهم، ثم أثبته لهم، ثم نفاه مرة أخري لبشير الى أن العلم الذي تعلموه، لا فائدة منه، ومثلهم كمثل الذي لا علم له
*********************************
لمطالعة بقية الفصول- اضغط هنا
لمشاهدة الحلقات فيديو- اضغط هنا
*********************************
|