Untitled Document

عدد المشاهدات : 2952

الحلقة (75) من "تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآيتين (104) و(105) من سورة البقرة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْ

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الخامسة والسبعون
تدبر الآيتين (104) و(105) من سورة البقرة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)
يقول "عبد الله بن مسعود" إذا سمعت الله تعالى يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.
وقد خاطب الله تعالى المؤمنين في القرآن العظيم بهذا النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) في ثمانية وثمانين موضعًا، وهذه الآية هي أول تلك المواضع
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
) لَا تَقُولُوا رَاعِنَا (
اذن الصحابة كانوا يقولون هذه الكلمة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وهذه الكلمة مِنَ الْمُرَاعَاةِ والعناية، فرَاعِنَا أي: راعي أمورنا، 
وقد يقولها الصحابة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين يتحدث اليهم ويلقي اليهم العلم ويقصدون بها أن يتمهل عليهم في كلامه حتى يفهموا ويحفظوا ما يقوله 
مع أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتمهل في كلامه تمامًا حتى أن السيدة عائشة كانت تقول "كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ" وربما كان يعيد الكلمة ثلاثة مرات حتى يستوعبها السامع
ومع ذلك كان الصحابة يقولون (رَاعِنَا (أي: راعي أمورنا، وتمهل علينا في كلامك حتى نفهم ونحفظ ما تقوله
وهذا من حرصهم –رضى الله عنهم- على العلم وعلى فهم وحفظ كل ما يقوله الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنهم كانوا أمة أمية، لا يعتمدون على التدوين في حفظ المعلومة، وانما كانوا يعتمدون على ذاكرتهم
المهم أن هذه الكلمة، وهي كلمة (رَاعِنَا ( كان الصحابة يكثرون من قولها للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي كلمة عربية صحيحة ومفهومة من كلام العرب، مِنَ الْمُرَاعَاةِ والعناية، وأصلها رعاية الغنم، ومعناها: راعي أمورنا
ونحن نستخدم هذه الكلمة في لغتنا الدراجة فنقول: فلان تحت راعيتك، أو فلان تحت رعايتى، أو: يا عم راعينا.
اذا كان الأمر كذلك، واذا كانت الكلمة كلمة عربية صحيحة ومفهومة ومعروفة من كلام العرب، بل ولا زلنا نستخدمها حتى الآن، فلماذا نهي الله سبحانه وتعالى الصحابة عن استخدام هذه الكلمة في خطابهم لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كانت اليهود تستخدم نفس هذه الكلمة في لغتهم الدراجة فيما بينهم، وربما في لغتهم العبرية والسريانية، ولكنهم كانوا يستخدمونها في السباب، فكان اذا سب أحدهم الأخر قال له (رَاعِنَا) من "الرعونة" وهي الإندفاع والطيش والهوج والحمق، أو (رَاعِنَا) أي يا راعي غنمنا
فلما سمع اليهود الصحابة وهم يخاطبون -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  بهذه الكلمة، تلقفوها وأخذوا يخاطبون بها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويقولون: رَاعِنَا يا أبا القاسم، وهم يقصدون سب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وكانوا يتضاحكون فيما بينهم ويقولون: كنا نسبه سرًا فالآن نسبه جهرًا
كنا نسبه سرًا فالآن نسبه جهرًا
وسمعهم "سعد بن عبادة"  زعيم الخزرج، وكان يعلم لغتهم، فقال لهم: "يا أعداء الله، والذي نفس بيده لئن قالها رَجُل منكم للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأضربن عنقه"  
فقالوا له: أو لستم تقولونها؟ فنزلت هذه الآية، وهي قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
 وهذه الآية مثل قول الله تعالى في سورة النساء (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) 
ثم أمر الله تعالى الصحابة أن يقولوا عند مخاطبة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدلًا من كلمة (رَاعِنَا) أن يقولوا (انْظُرْنَا) وهي نفس معنى (رَاعِنَا) أي الرعاية والعناية، كما نقول الآن في لغتنا الدارجة: "خلى عنيك على الولد" أو "فلان تحت عينى" أو "بنتك في عينى" وهكذا
اذن فهي كلمة تفيد ما يريدون ولكنها كلمة لا تحتمل التورية مثل كلمة  (رَاعِنَا) وذلك تأدبًا وتوقيرًا للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (وَاسْمَعُوا) والسمع هنا بمعنى الإستجابة والطاعة، كما تقول لأحدهم: اسمع الكلام
أو (وَاسْمَعُوا) أي أحسنوا سماع ما يتحدث به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وركزوا في كلامه، حتى لا تحتاجوا إلى أن تطلبوا منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التمهل في الكلام، لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتمهل في كلامه أصلًا كما ذكرنا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) والمراد بـ (الْكَافِرِينَ) هنا اليهود، والعذاب الأليم هي العقوبة المؤلمة، وجاءت كلمة العذاب نكرة لبيان هول العقوبة، كأنه عذاب لا تدرك كنهه ولا حقيقته
يقول الإمام "محمد عبده" في هذه الآية: قوله تعالى (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)  لِبَيَانِ أَنَّ مَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ فِي خِطَابِ الرَّسُولِ هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ فِي الْأَدَبِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَنْبٌ مُجَاوِرٌ لِلْكُفْرِ يُوشِكُ أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ 
لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَكَلَّمُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فاذا أسأت الأدب مع رسول الله فقد أسأت الأدب مع الله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والآية تشير الى قدر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورعاية الله تعالى له ودفاعه عنه، حتى أنه تعالى ينهي في القرآن العظيم المؤمنين عن قول كلمة يستخدمها اليهود بطريقة التورية في الاستهزاء بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل ويختار لهم الكلمة التى يخاطبون بها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يقول سعد بن عبادة: "يا أعداء الله، والذي نفس بيده لئن قالها رَجُل منكم للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأضربن عنقه" 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
(مَا يَوَدُّ) الود هو حب الشيء مع تمنيه، فمعنى (مَا يَوَدُّ) أي ما يرغب وما يحب وما يتمنى
(الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) أَهْلِ الْكِتَابِ هم اليهود والنصاري، والمشركين هم عبدة الأوثان 
(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الخير هو القرآن العظيم، وما يوحي الى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الحكمة
ومعنى (مِنْ خَيْرٍ) من بداية ما يقال له خير، كمن يسأل:هل عندك مال ؟ فاذا قلت ما عندي مال، فيحتمل أن يكون معك مال قليل، ولكن اذا قلت ما عندي من مال، يعنى ما عندي من بداية ما يقال له مال
اذن فالحق –سبحانه وتعالى- يطلع المؤمنين على ما في قلوب أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين من الضغينة والحسد للمؤمنين، ويقول لهم لا تقبلوا منهم النصيحة، بل تشككوا في كلمة تقال لكم منهم 
(وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) 
(يَخْتَصُّ) يعنى افرادهم بها دون غيرهم من خلقه
فالله تعالى بِرَحْمَتِهِ يَخْتَصُّ بالنبوة والرسالة من يشاء من خلقه
والله تعالى بِرَحْمَتِهِ يَخْتَصُّ بالإسلام والايمان من يشاء من خلقه
وهو تعالى بِرَحْمَتِهِ يَخْتَصُّ بالقرب والولاية من يشاء من خلقه 
وهو تعالى بِرَحْمَتِهِ يَخْتَصُّ بالقرآن العظيم من يشاء من خلقه 
وهو تعالى بِرَحْمَتِهِ يَخْتَصُّ بقضاء حوائج الناس من يشاء من خلقه 
 (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
الفضل هو الأمر الزائد عن حاجتك الضرورية.
روي مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : من كان معه فضل ظهر فليَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل) 
هذا عن الفضل بالنسبة للبشر، والفضل بالنسبة للبشر ليس فضلًا حقيقيًا، لأنه قد لا يحتاج اليه اليوم، ولكنه قد يحتاج اليه غدًا، ولأنه في النهاية فضل محدود
أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فإن كل ما في كون الله الآن وفي الآخرة لا يحتاج اليه الآن ولن يحتاج اليه غدًا، ولأنه فضل لا نهاية له ولا حد، ولذلك فان فضل الله تعالى هو الفضل الحقيقي، ولذلك قال عنه الله تعالى (الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اشارة أخري حين قال الله تعالى (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) معناها أن رحمة الله قد أصابت أناس دون أناس
ولذلك قال تعالى بعدها (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي أنه رحمته تعالى حين أصابت البعض دون الآخر ليس لقلة الرحمة وليست لضيق الرحمة على أن تتسع للكل، ولذلك قال بعدها (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي أن رحمته تتسع للكل ولكنها تعالى كتبها لمن يستحقها ممن يشاء من عباده

*********************************

لمطالعة بقية الفصول- اضغط هنا

لمشاهدة الحلقات فيديو- اضغط هنا

 *********************************