تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثامنة والسبعون
تدبر الآيات (111) و(112) و(113) من سورة البقرة
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)
(هُودًا) هودا: جمع هائد أي عائد أو تائب
وقلنا من قبل أن كلمة (اليهود) من قولهم بعد عبادة العجل (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) أي إِنَّا تبنا إِلَيْكَ من عبادة العدل
وليس معنى الكلام أن اليهود يقولون أن اليهود والنصاري سيدخلون الجنة، أو أن النصاري يقولون أن النصاري واليهود سيدخلون الجنة، ولكن المعنى أن الْيَهُود يقولون: لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا , والنَّصَارَى تقول: لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا.
وهذا من أساليب البلاغة في اللغة وهو اسلوب "اللف"
بدليل أن الآية بعد التالية تقول (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)
الْأَمَانِيُّ: جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وهي ما يتمناه الإنسان بدون سبب يصل به إليه.
وهي ما نطلق عليه الان "أحلام اليقظة"
واستخدم القرآن(تِلْكَ) وهو اسلوب الاشارة للبعيد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) أي هَاتُوا حُجَّتكُمْ
( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم.
وأنت لا تطلب البرهان من انسان وقعت معه في جدال الا اذا كنت متأكدًا أنه لا برهان له
لأنك اذا طلبت منه البرهان وقدمه لك فسيفحمك
ودائمًا أقوي حجة في مواجهة المقلد هو أن تطلب منه الحجة
لو صدم أحد سيارتك، وطلبت منه ثمن التصليح، يقول لك: هل تقبل عوض ؟ّ! العوض حرام ! فاذا قلت له لم حرام ؟ قال لك: هذا أمر معروف ! فاذا قلت له: ما الدليل ؟ فهذه هي أقوي حجة في مواجهته
وبنى اسرائيل كثير منهم مقلدون، كما قال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ومعنى أميون يعنى لم بقرؤا التوراة، وانما هم يقلدون أحبارهم وعلمائهم
(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
(بَلَى) تأتي لنفي ما قبلها واثبات ما بعدها
فمعنى (بَلَى) هنا تكذيب كلامهم، وهو قولهم ( لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)
ولكن الذي سيدخل الجنة هو (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)
ومعنى (أَسْلَمَ) أي استسلم لأمر الله تعالى، أي خضع لأمر الله تعالى
ومن ذلك قول الله تعالى في سورة آل عمران (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعنى استسلم وانقاد
وَلذلك سُمِّيَ الْمُسْلِم مُسْلِمًا لأنه مستسلم وخاضع لأوامر الله تعالى
وقال تعالى (وَجْهَهُ) لأن العرب كانت تستخدم الوجه وهي تريد كل الشيء، لأن الوجه هو أكرم وأشرف أعضاء جسم الإنسان وهو موضع الفكر والحواس
كَمَا قَالَ زَيْد بْن عَمْرو بْن نُفَيْل :
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ * لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ * لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا
كما نقول في حديثنا الدارج (أنا أصنع هذا لوجه الله) يعنى أصنع هذا خالصُا لله
وكما قال تعالى في سورة الليل (إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى)
وكما قال في سورة القصص (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) يعنى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا هو تعالى.
قال لى أستاذ في العقيدة أن طالب جاءه وقال له: يقول تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) والله تعالى أثبت في القرآن العظيم أن له يد، وله ساق، وله كذا، فهل معنى ذلك أن كل ذلك سيهلك ولا يبق الا وجهه تعالى
والرد أن العرب كانت تذكر الوجه، وهي تريد نفس الشيء
(وَهُوَ مُحْسِنٌ) يعنى قرن ايمانه بالله بالعمل الصالح
(فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وهو دخول الجنة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
طالما أن أجرك عند الله فطبيعي جدًا ألا تخاف على أجرك
لأن لو عندك حق عند مساو فقد تذهب بك الظنون أنه قد يستولى على حقك أو ينقصك منه شيء، ولكن ما عند الله تعالى لا خوف عليه لأن الله تعالى ليس في حاجة الى ما سيعطيه لك
وهذا تعبير قرآني يتكرر في العديد من الآيات
لأن الإنسان يخاف من المستقبل، ويحزن على الحاضر والماضى
فهؤلاء لا خوف عليهم من المستقبل، لأن مصيرهم الجنة والخلود فيها
ولا هم يحزنون على الماضى، لأنهم اغتنموا الدنيا، وأحسنوا استغلالها، وكانت لهم نعم المزرعة للآخرة
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ * لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
وهذا أصدق شيء قالته اليهود والنصاري
والمعنى أن اليهود قالت: ليست النصاري في دينها على حق وصواب، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على حق وصواب
وقوله (عَلَى شَيْءٍ) شَيْءٍ: نكرة، يعنى على أي شيء من الخير
وهذه الآية لها قصة وهي أنه لما قدم وفد نصاري نجران الى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال اليهود: ما أنتم على شيء وكفروا بعيسي وبالإنجيل، وقال النصاري من أهل نجران: ما أنتم على شيء وكفروا بموسى والتوراة
وهذا التنازع والإختلاف بين اليهود والنصاري لا يزال قائمًا الى اليوم، بالرغم من أن التوراة تبشر بعيسي، ولكن الْيَهُودُ إِلَى الْيَوْمِ تَدَّعِي أَنَّ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَمَّا يَأْتِ، وَتَنْتَظِرُ ظُهُورَهُ وَإِعَادَتَهُ الْمُلْكَ إِلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، والنصاري تقول لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ لأنهم ينكرون المسيح
وفد نصاري نجران
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) يعنى قالوا ذلك وهم أهل علم يتلون الْكِتَابَ الذي أنزل عليهم وهو التوراة والإنجيل ، وهذه الكتب تشهد على كذبهم فيما يقولون، فالتوارة وهو كتاب اليهود يحقق نبوة عيسي، والإنجيل وهو كتاب النصاري يحقق نبوة موسي
(كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) يعنى كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ من مشركي العرب مِثْلَ قَوْلِهِمْ أن محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه ليسوا على شيء
وكأن الله تعالى يقول لليهود والنصاري أنتم أهل علم وكتاب، ولكنكم في مصاف الجهلة الذين لا كتاب لهم
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
وهذا تهديد من الله تعالى لأن الحكم ليس معناه أن يقول تعالى: أنت مخطىء وأنت على صواب، لأن طالما حكم، فسيكون الحكم بلوازمه، أي سيعطي كل منهم ما يستحق من عقاب
كما لو اتصل بك أبنائك وقال لك أحدهم: سعيد ضربنى، وقال الآخر: زيد شتنمنى، فستقول لهم: انتظروا حتى آتي وأعرف من المخطأ، فليس معنى هذا أنك ستأتي وستقول أنت يا سعيد المخطأ، ولكن المعنى أنك ستحكم الحكم بلوازمه، يعنى ستحكم وستعاقب المخطأ
تنازع اليهود والنصاري عند الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
|