تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة التاسعة والسبعون
تدبر الآيات (114) و(115) من سورة البقرة
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمَنْ أَظْلَمُ(، يعنى ليس هناك أظلم، ولا أحد أكثر ظلمًا
وهذا ما يطلق عليه: استفهام بمعنى النفي
وتحويل النفي الى استفهام أبلغ في النفي، لأنه نفي مشرب بالتحدي، كمن يقول: من أقوي منى ؟ أو: من أكثر علمًا منى في مسئلة كذا ؟
اذن فهذا هو قمة الظلم، وهو قمة الذنوب، أن تمنع مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ تعالى أو أن تخرب
(مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ)
المسجد سمي مسجدًا لأنه مكان السجود
وشرف المسجد بأن أضيف الى الله تعالى، فقال تعالى (مَسَاجِدَ اللَّهِ) مع أن كل شيء ملك لله تعالى، كما قال تعالى عن الكعبة أنها "بيت الله الحرام" مع أن كل البيوت ملك له
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه الآية قيل أن لها سبب نزول، هو دخول "بَخْتِنْصَرَ" بَيْتِ الْمَقْدِسِ وتخريبه وهدمه هيكل سليمان، وَإِحْرَاقُهُ مَا كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ مِنْ نُسَخِ التَّوْرَاةِ. وكان ذلك قبل ميلاد المسيح بِسِتِّمِائَةٍ وَثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وقيل أنها نزلت في "تَيْطَسَ" الرُّومَانِيِّ، والذي جاء بَعْدَ الْمَسِيحِ –عليه السلام- بِسَبْعِينَ سَنَةً، حين دخل بَيْتَ الْمَقْدِسِ وخربه وَهَدْمُه هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ تَلًّا مِنَ التُّرَابِ
وقيل أنها نزلت في "أَدْرِينَالَ" الرُّومَانِيِّ الذي جاء بعد المسيح بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةٍ، والذي دخل بيت المقدس، وخربها، وَبَنَى مَدِينَةً عَلَى أَطْلَالِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، بل بَنَى هَيْكَلًا لِلْمُشْتَرَى عَلَى أَطْلَالِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ، حتى كَانَ الْيَهُودُ يُسَمُّونَهُ "بَخْتِنْصَرَ الثَّانِيَ"
اذن كل هذه الآراء تقول أن (مَسَاجِدَ اللَّهِ) المقصود به هو: بيت المقدس
صورة تخيلية لهيكل سليمان
وقيل أنها نزلت في مَنْعِ مُشْرِكِي مكة النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَّةِ
وقيل أن الآية عن نزلت في أحداث ستقع فقيل أنها نزلت في الْقَرَامِطَةِ في القرن الرابع الهجري، والذين هاجموا مكة المكرمة في موسم الحج، وقتلوا زهاء ثلاثين ألفا من أهل مكة ومن الحجاج
وقيل أنها نزلت في الحملات الصليبية والتى بدأت في القرن الخامس الهجري واستمرت لمدة مائتين سنة، ووصل عددها الى تسعة حملات، ودخلوا بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وخربوا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ.
استمرت الحملات الصليبية مائتين سنة وخربوا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ونقول أن سبب نزول الآية هو كل هذه الأحداث المؤسفة الدامية، وغيرها من الأحداث التى تذخر بها كتب التاريخ
فالآية تتناول ما حدث قبل نزول القرآن وما سيحدث بعد نزول القرآن من الاعتداء على مساجد الله حتى قيام الساعة
بدليل أن الآية تقول (مَسَاجِدَ اللَّهِ) ولم يقل "مَسَجِدَ اللَّهِ"
فيمكن أن يدخل فيها محاولة أبرهة هدم الكعبة
ويدخل فيها اعتداء الحجاج على الكعبة في سنة 73 هجرية
ويدخل فيها اعتداء رجل اسمه "محمد عبد الله القحطاني" هو وفرقته على الكعبة سنة 1979 ميلادية وادعائه أنه المهدي المنتظر
اعتداء فرقة القحطاني على الكعبة في 1979 م
ويدخل فيها –ولا شك- هدم الكعبة في آخر الزمان على يد رجل من الحبشة اسمه "ذو السويقتين"
انظر الآن في حرب البوسنة والهرسك في تسعينات القرن الماضى، هدم الصرب أكثر من ألف مسجد، وهناك مساجد هدمت وبنيت كنائس على أنقاضها
وهناك مسجدين تم هدمها في أنجولا قريبًا، حتى تدخل بعض سفراء الدول الإسلامية فتوقف الأمر
ومساجد يفجرها الحوثيين في اليمن
ومساجد تفجرها داعش في المملكة السعودية
وهناك المساجد التى يهدمها الآن البوذيين في بورما
اذن فالأمر يزيد كلما زاد ضعف الإمة الإسلامية وهوانها في قلوب أعدائها، وحتى يصل الأمر في نهاية الزمان الى هدم الكعبة نفسها
اذن قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) حتى وان كان لها سبب خاص، فان الآية عامة في كل هؤلاء المجترئين على مساجد الله تعالى، لأن العبرة –كما ذكرنا كثيرًا- بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب، ولأنه تعالى قال (مَسَاجِدَ اللَّهِ) ولم يقل (مَسَجِدَ اللَّهِ)
هدم المساجد في حرب البوسنة والهرسك
هدم المساجد في أنجولا
داعش تفجر مسجد في المملكة السعودية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)
وهذا المنع قد يكون بتخويف الناس من دخول المسجد، كما كان في تونس مثلًا قبل الثورة حين كان دخول المسجد عن طريق بطاقة ممغنطة، والبطاقة عليها اسم المسجد الذي يصلى فيه، واذا لم يكن معه البطاقة أو كان اسم المسجد مختلف يطرد من المسجد ويمنع من الصلاة، وكل هذه الأسماء مدونة ويتم متابعتها عن طريق المخابرات
والآن في فلسطين اذا قام أحد بزيارة المسجد الأقصى يمكن توقيفه والتحقيق معه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)
وهذه مرحلة بعد المنع وهو تخريب المسجد أي هدمه، وهذا أيضًا يحدث في أماكن كثيرة كما ذكرنا في الصرب وبورما وأنجولا وغير ذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ)
يخاطب الله تعالى المؤمنين ويقول لهم: هؤلاء المجترئين على مساجد الله سواء بالمنع من الصلاة فيها أو الهدم، ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله الا خائفين منكم
فكيف تركتموهم يجترئون على الحق، وحتى وصلت بهم الجرأة الى القمة وهو الاجتراء على بيوت الله تعالى
اذن الآية أمر من الله تعالى الى الجماعة المؤمنة أن يجاهدوا المجترئين على مساجد الله، وهو أمر مشرب بالعتاب، كأن الله تعالى يقول لهم:
ما كان ينبغي لهؤلاء المجترئين على مساجد الله، أن يدخلوا مساجد الله الا خائفين منكم، فكيف تركتموهم يجترؤن عليكم هذا الاجراء، ويستخفون بكم هذا الاستخفاف، وحتى وصلوا الى منعكم من الصلاة في المساجد، ثم وصلوا الى هدم المساجد نفسها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
هناك ذنوب يعجل الله تعالى عقوبتها في الدنيا، مثل عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، فيخبر الله تعالى في هذه الآية أن من الذنوب التى يعجل الله تعالى عقوبتها في الدنيا: هي منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والسعي في خرابها
وهكذا يطمئن الله تعالى الجماعة المؤمنة الى أن اجتراء هؤلاء على بيوت الله لن يمر بلا عقاب دنيوي يرونه أمام أعينهم ويشف صدورهم
(لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) هنا حدد الله تعالى نوع العقاب الدنيوي، وهو الخِزْيٌ، أي العذاب ذو الإهانة، لأنهم وصلوا الى قمة الكبر والاستعلاء على شرع الله تعالى، فكان الجزاء من جنس العمل وهو الخزي في الحياة الدنيا
وقد ذكرنا التضييق على المصليين في تونس قبل الثورة، وانتهي الأمر بالرئيس التونسي الى الطرد والإهانة والسخرية، وأصبح اسمه "زين الهاربين" بدلًا من "زين العابدين"
ثم قال تعالى (وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) كأن هذا العذاب في الدنيا لا يقارن بعذاب يوم القيامة، وذكر العذاب نكرة لبيان هول هذا العذاب، كأن عذاب لا يعرف حقيقته ولا يدرك كنهه
كمن تقول مهددًا أحدهم وتقول: سأضربك ضرب
على زين العابدين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية أخذ منها العلماء أحكام فقهية كثيرة جدًا، منها تحريم التحجر، وهو أن تضع شيئًا في مكان في المسجد حتى تحجز هذا المكان لنفسك، لأنك بذلك منعت غيرك من أن يذكر الله تعالى في هذا المكان
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
بعد أن ذكر الله تعالى هذا الذنب العظيم، وهو ذنب منع المصلين من المساجد ثم هدم المساجد، وهو أمر حدث قبل الإسلام في بيت المقدس –كما ذكرنا- وحدث بعد الإسلام، وهو يزيد يومًا بعد يوم وحتى يصل الى هدم الكعبة نفسها قبل قيام الساعة، وهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم
يواسى الله تعالى الجماعة المؤمنة الذين سيبتلون بأن يعيشوا هذه الأحداث المؤسفة، ويرونها أمام أعينهم، فيقول لهم (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) يعنى الله تعالى يملك المشرق ويملك المغرب، أي أنه تعالى يملك الأرض كلها، لأن الشمس تشرق وتغرب كل يوم من مكان مختلف، ولا تعود الى هذا المكان الا في العام الذي يليه
اذن فالله يملك كل الأرض، وقد جعل الله تعالي الأرض لكم مسجدًا
(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا أي توجهتم، فَثَمَّ أي هناك، وَجْهُ اللَّهِ أي ذات الله ووجوده
فالمعنى أينما تتوجهوا بقصد الحضور في حضرة ربكم، فستجدون الله تعالى
فاذا منعت من الصلاة في المسجد وصليت في أي مكان، فهذا المكان هو مسجدك، لأن الأرض جعلت لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأمته مسجدًا وطهورا
(إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
وناسب تذييل الآية السياق، لأن من سعته تعالى أنه وسع علينا مكان التقائنا به تعالى، فجعل لنا كل الأرض مسجدًا
ثم قال (عَلِيمٌ) يعنى سعة ملكه لا تجعل بعض الأمور تغيب عنه كما هو عند البشر، كما قال تعالى في سورة الأنعام (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )
|