تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثمانون
تدبر الآيات من (116) الى (119) من سورة البقرة
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) وذلك من قول اليهود (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) ، وقول النصاري (الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) وقول مشركي العرب أن الملائكة بنات الله
وأظهر هذه الأقوال هو قول النصاري (الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) لأن ليس كل اليهود يقولون أن (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) ولم يقل كل مشركي العرب الملائكة بنات الله
ولذلك عندما تقرأ قول الله تعالى ) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) ينصرف ذهنك مباشرة الى النصاري، والى قولهم أن (الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقضية أن الله سبحانه وتعالى له ولد جاءت في القرآن الكريم للرد عليها تسع عشرة مرة، لأنها قضية في قمة العقيدة
يقول تعالى في سورة "مريم" ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا*)
قال البخاري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال
"قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا فسبحاني أن اتخذ صاحبة أو ولدا"
وفي الصحيحين عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لَيْسَ أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
في هذه الآية يرد الله تعالى على هذا الإدعاء فيقول (سُبْحَانَهُ) تنزيهًا له أن يكون له ولد، وهو تنزيه مع التعجب، لأن الولد يعنى أن تكون له –تعالى- صاحبة تماثله، والله تعالى ليس له مثيل، والولد يعنى أن يكون مماثلًا له تعالى، والله تعالى ليس له مثيل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(بَلْ) يعنى ليس الأمر كذلك، لأن (بَلْ) تأتي لنفي الأول واثبات الثاني
(لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) هنا يذكر الله تعالى طبيعة العلاقة بينه وبين خلقه
فجميع خلقه ملكًا له، وعبيدًا له، ومن جملة ملكه وعبيده: الملائكة وعزير والمسيح
(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي مطيعون ومنقادون ومسخرون
حتى الكافر منقاد ومسخر لله تعالى لأنه يسير في حياته كما قدر الله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
المبدع هو المنشيء والمحدث لشيء لم يسبقه اليه أحد
ولذلك سمي المبتدع في الدين، لأنه يأتي بشيء لم يفعله الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ونحن نقول في لغتنا "فنان مبدع" يعنى يأتي بأشياء لم يسبقه اليها أحد
اذن قوله تعالى (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي أنه تعالى خلق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وما فيهما، على غير مثال سابق، وبلا احتذاء ولا اقتداء
فلم تكن هناك سماء وأرض وملائكة وانسان ومخلوقات، ثم جاء الله تعالى فخلق مثلها، ولكنه تعالى أوجد كل هذه المخلوقات على غير مثال سابق، وبلا احتذاء ولا اقتداء
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذَا قَضَى أَمْرًا) أي إِذَا أراد أَمْرًا (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ) للأمر المراد (كُنْ) مرة واحدة بلا تكرار (فَيَكُونُ) على ما أمر الله تعالى
والفاء تفيد الفورية، أي ليس هناك تراخٍ ولا تمهل بين أمر الله بالتكوين وتكونه
فالله تعالي أوجد السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بغير مادة وبغير آلة وبلا معالجة
وليس معنى قوله (كُنْ) أن الله تعالى ينطق الكاف والنون كما ننطقها نحن، أو يتكلم كما نتكلم نحن لأن الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)
ولكنه مثال يضربه لنا الله تعالى حتى يقرب المعنى أذهاننا، لأن الحقيقة لا تستوعبها أذهاننا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والآية مرتبطة بالآية السابقة عليها، كأن الله تعالى يقول أنه ابتدع السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، أي خلق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وما فيهما، على غير مثال سابق، أفلا يقدر على أن يبتدع في خلق واحد من عبيده فيجعله بلا أب
فكما ابتدع الله تعالى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وما فيهما بغير مثال سابق، ابتدع خلق المسيح –عليه السلام- من غير والد وبغير مثال سابق
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا) أي هلا، وكلُّ ما في القرآن لولا يفسر على هَلَّا، غير التي في الصافات (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)
(يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) أي أن يُكَلِّمُهم الله مباشرة، كما كلم موسى وكلم الملائكة،
أو أن يكلمهم ويقول لهم أن محمدًا رسوله،
وقد حفظت لنا كتب التفسير أن أحد الذين طلبوا هذا الطلب "رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ" وكان أحد أحبار اليهود من "بنى قينقاع" وكان كان شريرًا بغيًا منافقًا، فقال للرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ كُنْتَ رَسُولا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، فَقُلْ لِلَّهِ فَليُكَلِّمْنَا حَتَّى نَسْمَعَ كَلامَهُ
(أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ) أي أن يأتي لهم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأية من الآيات الكونية الحسية التى اقترحوها
كما قلنا من قبل أن أهل مكة طلبوا من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أن يفجر في مكة نهرًا كالفرات (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا)ً
وطلب البعض أن يزيح الجبال حول مكة وتكون الأرض سهلة منبسطة، وطلب البعض أن يحول جبل الصفا الى ذهب
يقول تعالى في سورة الإسراء (أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً)
وقلنا من قبل أن طلب آية بعينها هو من أعمال الكفر، لأنه استهانة بالآيات التى جاء بها الرسول
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي اليهود حين قالت (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ) وطلبوا أن يسمعوا كلام الله تعالى، وأيضًا كفار الأمم السابقة في كل زمان ومكان كانوا يطلبون من أنبيائهم معجزات بعينها
(تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) هؤلاء قلوبهم متشابهة في الكفر والقسوة والتمرد على الله تعالى، والجرأة على أنبياءه ورسله
كما قال تعالى في سورة الصافات (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )
(قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
يقول تعالى أَنَّنَا لَمْ نَدَعْكَ يَا مُحَمَّدُ بِغَيْرِ آيَةٍ، قد جئنا بالآيات البينات الواضحات، وهي آيات القرآن العظيم الدالة على صدق نبوتك
(لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) لِقَوْمٍ يطلبون اليقين والحق، ويبحثون عن الحقيقة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ)
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ) الحق هو الصدق وهو نقيض الباطل
والمعنى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بدين الحق وهو الإسلام
أو: أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ وهو القرآن
و (بَشِيرًا) بَشِيرًا بِالْجَنَّةِ لمن أطاعك
(وَنَذِيرًا) نَذِيرًا مِنَ النَّارِ لمن عصاك
(وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) أي لن نحاسبك عمن دخل النار، سنحاسبك فقط عن البلاغ
كما قال تعالى في سورة الرعد (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)
و (الْجَحِيمِ) هي النار شديدة الوقود
وهذه الآية تسلية لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتسرية عنه لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقرأت (وَلَا تَسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) بالنهي عن السؤال
وهذا معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب
كما تسأل عن فلان وقع في بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه
كأنه لا يستطيع أن يقول ما حدث لفظاعته، وأنت لا تقدر على الاستماع لفظاعته
|