Untitled Document

عدد المشاهدات : 2959

الحلقة (83) تدبر القُرْآن العَظِيم تدبر الآية (125) من سورة البقرة وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الثالثة والثمانون
تدبر الآية (125) من سورة البقرة
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ)
(الْبَيْتَ) هو الْكَعْبَةُ، وهو بيت الله الحرام
ويطلق عليها علم بالغلبة، يعنى اذا أطلقت كلمة البيت انصرف الذهن الى الكعبة
كما اذا قلنا المدينة (وهناك في العالم 24500 مدينة) علم الناس أن المقصود هو مدينة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وكلمة البيت جاءت من البيتوتة، يعنى المكان الذي يأوي اليه الإنسان ويسكن فيه ويستريح ويبيت فيه،
ولذلك أطلق على الكعبة بيت لأنه المكان الذي يستريح فيه كل الناس
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مَثَابَةً)  ثاب الى شيء أي رجع اليه 
فكانت العرب تقول: ثابت العلة، أي رجعت
وتقول: ثاب الى رشده، أي رجع الى عقله
فمعنى (مَثَابَةً) يعنى مرجعًا
فاذا جاءه الإنسان مرة حاجًا أو معتمرًا ما يلبث أن يشتاق اليه ثم يعود اليه مرة أخري، لأنه ذاق فيه حلاوة أن يكون في بيت ربه
كما قال المفسرون: وما قضى طالب منه وطرا
والذي لم يأت اليه حاجًا أو معتمرًا يثوب اليه أي يرجع اليه في كل يوم خمس مرات على الأقل، لأن المسلمين يتجهون اليه في صلاتهم 
وأيضًا (مَثَابَةً) أي مكانًا وموضعًا للثواب، يعنى ثواب الأعمال فيها كبير جدًا، فكل عمل فيه يضاعف الى مائة ضعف 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَأَمْنًا) يأمن من دخل فيه، ولاذ به، وأوي اليه
والحق –سبحانه وتعالى- لا يخبر في هذه الآية أن من دخل البيت سيكون أمنًا، ولكنه تعالى يأمرنا أن نؤمن من دخل 
ولذلك يتوقف البعض أمام هذه الآية ويقول: كيف يقول تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) بينما تاريخيًا تعرض الحرم الى ثلاثة اعتداءات:
- في سنة 73 هـ اعتدي عليه "الحجاج بن يوسف" في عهد "عبد الملك بن مروان" وقذفت الكعبة نفسها بالمنجنيق
- في سنة 317 هـ اعتدي القرامطة على مكة وقتلوا 30 ألف من الحجاج ومن سكان مكة
- في سنة 1979 م ادعي رجل اسمه "محمد عبد الله القحطاني" أنه المهدي المنتظر، وقتل في هذه العملية 250 شخص
- بل أخبر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه سيتم هدم الكعبة في آخر الزمان على يد رجل من الحبشة لقبه  بذو السوقين
نقول –مرة أخري- أن الله تعالى لا يخبرنا أن من دخل البيت سيكون أمنًا، ولكنه تعالى يأمرنا أن نؤمن من دخل، يعنى يقول لنا من دخل أمنوه
وفي آية أخري في سورة العنكبوت يقول –تعالى- (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)
اذن يمتن الله تعالى علينا في هذه الآيات بأنه قد وضع هذا التشريع، وهو أن يكون هذا المكان آمنا، يأوي اليه الضعيف، وما من قوي الا وله عدو أقوي منه 
حتى بعد أن تحلل العرب من دين ابراهيم، ظل العرب يحترمون حرمة بيت الله الحرام، حتى اذا لقي أحدهم قاتل أخيه أو أبيه فانه لا يتعرض له، وربما تربص له في خارج الحرم حتى يأخذ بثأره
حتى دواب الحرم وشجره وحشيشه أمن القطع 
اعتداء القرامطة على الكعبة سنة 317 هـ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)
(وَاتَّخِذُوا) يعنى اجعلوا
(مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) هو المكان المعروف والموجود في المسجد الحرام، حيث توجد قبة زجاجية بجوار الكعبة
وفي داخل القبة يوجد حجر، هذا الحجر كان يقف عليه إِبْرَاهِيمَ، وهو يبنى الكعبة، حيث كان إِبْرَاهِيمَ يضع الحجارة واسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فلما ارتفع البنيان قام إِبْرَاهِيمَ على هذا الحجر
 وهو نفس الحجر الذي قام من عليه إِبْرَاهِيمَ –عليه السلام- بالأذان والنداء للحج بين الناس
ولذلك سمي (مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) يعنى المكان الذي كان يقوم عليه إِبْرَاهِيمَ أي يقف عليه ويطيل الوقوف عليه
(مُصَلًّى) يعنى مكان للصلاة، وتطلق أيضًا على الدعاء
فقوله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)
أمر من الله تعالى بالصلاة والدعاء عند هذا الحجر تكرمة لإبراهيم 
وفي وصف حج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه استلم الحجر وطاف سبعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين، ويطلق عليهما "ركعتى الطواف" وهما واجبتنان على مذهب مالك، وسنة عند الجمهور
(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهناك من قال أن (مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) هو أماكن الحج كلها، وهي: عرفة والمزدلفة والجمار والصفا والمروة وسائر أماكن الحج، و(مُصَلًّى) يعنى المعنى اللغوي للصلاة وهو الدعاء، يعنى اتخذوا هذه الأماكن أماكن للدعاء
فالمعنى: واتخذوا عرفة والمزدلفة والجمار والصفا والمروة وسائر أماكن الحج التي مر بها إبراهيم أماكن للدعاء 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذا رجعنا الى التفسير الأول وهو أن قوله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) أمر من الله تعالى بالصلاة عند مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
نقول أن هذه الآية لها قصة نزول، وهي أن المسلمين كانوا يتحرجون من الصلاة عند مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، لأن مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ "حجر" فاذا صلوا عنده فانه يكون بينهم وبين الكعبة، وكانوا قريبي عهد بعبادة الأصنام، فكان المسلمون يصلون في كل مكان في المسجد باستثناء الجزء المواجه لمقام ابراهيم
ولم يعجب هذا المشهد عمر –رضى الله عنه- فقال للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟) فوافق القرآن العظيم عمر في هذا، ونزل قول الله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ)
وهذا أحد مواضع ثلاثة وافق فيها القرآن العظيم عمر، أو وافق عمر القرآن العظيم، وقد يسأل البعض أليس رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أولى من عمر بهذه الموافقات
نقول أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مؤيد بالوحي، والله تعالى أراد أن تكون هذه الموافقات من شخص غير موصول بوحي السماء، ليكون ذلك دليلًا على أن الفطرة اذا صفيت تستطيع بذاتها ان تتجه الى حكم الله
حجر المقام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد قلنا أن الأمر بالصلاة عند مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ هو تكرمة لأبراهيم –عليه السلام- 
وليس هذا فحسب بل هو سمة لإكمال التكليف اكمال المحب 
كيف ؟
عندما أراد إبراهيم أن يقيم القواعد من البيت كان يكفي أن يقيمها على قدر طول قامته، ولكنه أتى بهذا الحجر ليزيد من ارتفاع البناء، فكأن الله تعالى يريد بالأمر باتخاذ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مصلى أن يلفتنا إلى أن الإنسان المؤمن لابد أن يعشق التكليف، فلا يكتفي بما فرض الله عليه ولكن يزيد تطوعا من جنس ما فرض الله عليه،
فالحجر الموجود في مقام إبراهيم دليل على عشقه -عليه السلام- لتكاليف ربه ومحاولته أن يزيد عليها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) أي أمرنا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
والعهد هو الوصية بأمر هام، فالعهد ليس مجرد الوصية، ولكن الوصية بأمر هام، كمانقول: عهد أبي بكر بالخلافة الى عمر 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي) 
أمر باعداد البيت بالتطهير من الانجاس وغير ذلك
اذن أصبح ابراهيم واسماعيل سادنين للكعبة بأمر ربهما
وسدانة الكعبة تعني العناية بالكعبة المشرفة والقيام بشؤونها من تنظيفها وغسلها واصلاح ما قد يتهدم منها واستقبال زوّارها وخدمتهم وكل ما يتعلق بذلك 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (لِلطَّائِفِينَ) الذين يطوفون بالبيت، لأن الطواف هو الدوران 
 (وَالْعَاكِفِينَ) هم الجالسون في المسجد للعبادة غير الطواف والصلاة
 (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) هم المصلون 
وقد بدأ بالطَّائِفِينَ لأنها عبادة خاصة بالمسجد الحرام، ثم ذكر (الْعَاكِفِينَ) لأنه عبادة خاصة بالمساجد، فهي أعم من (لِلطَّائِفِينَ) ثم قال (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) لأن الصلاة تصح في أي مكان، فكأنه تعالى بدأ بالأخص ثم الأخص ثم الأخص
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وموضوع مكان مقام ابراهيم حدث فيه خلاف بين كثير من العلماء
لأن البعض كان يري أن يؤخر عن مكانه للتوسعة، وقالوا أنه كان على عهد الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ملتصقًا بالكعبة، ثم أخره الرسول  -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال البعض بل أخره الى هذا الموضع عمر –رضى الله عنه- وبناءً على ذلك يكون للخليفة حق إزاحته عن مكانه إذا رأى في ذلك المصلحة
وقال البعض أنه كان في موضعه على عهد الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى هذا لا يجوز أن يغير
وقد كانت المملكة السعودية في عام 1954 على وشك نقله من مكانه والرجوع به الى الوراء ليفسحوا المطاف، وتحدد اليوم الذي سيقوم فيه الملك سعود بنقل المقام، وكان الشيخ الشعرواي في ذلك الوقت يعمل في مكة استاذًا بكلية الشريعة، فلما علم بذلك اتصل ببعض العلماء السعوديين والمصريين فقالوا له أن الموضوع منتهي وأن المبنى الجديد قد أقيم، فلم ييأس وأرسل برقية من خمس صفحات الى الملك السعود وعرض فيه المسألة من الناحية الفقهية والتاريخية 
وقال إن الذين احتجوا بأن رسول الله قد قام بنقل المقام فهذه ليست حجة، لأن الرسول رسول ومشرع، فلا نستطيع أن نستند الى ذلك وننقل المقام من المكان الذي وضعه فيه رسول الله
أما قولهم  أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – هو الذي نقل المقام، فان عمر لم يفعلها، بل عندما وقع سيل شديد في عهده وجرف "حجر المقام" من مكانه وذهب به بعيدا، وكان ذلك في رمضان عام 17هـ ، جاء عمر فزعا من المدينة وجمع الصحابة وسألهم: "أناشدكم أيكم يعرف موقع هذا المقام في عهد رسول الله؟" فقام رجل من أهل مكة وقال: أنا يا عمر !  لقد اعددت لهذا الأمر عدته، لذلك قست المسافة التي تحدد موضع المقام بالنسبة للكعبة، وكان الرجل قد استخدم حبلًا في قياس المسافة بين الحجر وبين الكعبة، فطلب العمر الحبل، وـاكد من صدق كلامه، وأعاد الحجر الى مكانه، فهو في موقعه الى اليوم
ثم اقترح الشعرواي أن يوضع الحجر في قبة صغيرة من الزجاج الغير قابل للكسر، بدلا من المقام القديم الذي كان عبارة عن بناء كبير يضيق على الطائفين 
فلما وصلت البرقية الى الملك سعود, جمع العلماء وطلب منهم دراسة برقية الشعراوي, فوافقوا علي كل ما جاء في البرقية, فأصدر الملك قرارا بعدم نقل المقام.
ثم أمر الملك بدراسة مقترح الشعرواي بأن يوضع الحجر، في قبة من الزجاج فوافقوا على مقترح الشيخ ووضع منذ ذلك الوقت في صندوق زجاجي، وتم تطوير شكل الصندوق عدة مرات حتى وصل الى الشكل الموجود الآن 
.
ثم طلب الملك الشيخ الشعراوي, وكرمه واعطاه عباءة وساعة وقلم, ولكن قبل ذلك كان الله تعالى قد كرمه بأن رأي سيدنا ابراهيم في الرؤيا 
وهكذا ظل مقام ابراهيم في مكانه الموجود فيه الآن منذ عهد الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على بعد حوالى 10 أو 11 متر من الناحية المتجهة الى الصفا والمروة 
وهو حجر مكعب طوله وعرضه وارتفاعه نصف متر، وهو حجر رخو من نوع حجر الماء وقد كان ملامح قدمي ابراهيم وأصابع قدميه والعقب واخمص القدم ظاهرة فيه، ولكن اختفت المعالم من كثرة تمسح الناس بها، وأصبح يظهر فقط أثر القدمين 
الكعبة قديمًا ويظهر البناء الكبير لمقام ابراهيم
البناء القديم لمقام ابراهيم
القبة الزجاجية لمقام ابراهيم وموقعها من الكعبة
حجر المقام كما يظهر داخل القبة الزجاجية