تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الخامسة والثمانون
تدبر الآيات من (128) الى (131) من سورة البقرة
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
هذه الآية هي استكمال لدعاء إِبْرَاهِيمُ –عليه السلام- وهو (يَرْفَعُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) كما أمره الله تعالى
يقول تعالى في الآية السابقة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
اذن فالدعاء الأول كان دعاءًا بقبول العمل (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
ثم استكمل إِبْرَاهِيمُ –عليه السلام- دعاءه فقال
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) والإسلام هو الإستسلام والخضوع لله تعالى
بالرغم من أنهما مستسلمين لله، ولكنه دعاء بالثبات على الإستسلام لله، ودعاء بزيادة الإستسلام لله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) توجيه من الله تعالى أن ندعو للذرية، ولا نكتفي بالدعاء للأبناء فقط، ولكن الدعاء للأبناء وأبناء الأبناء، والذرية كلها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هنا يدعو "إِبْرَاهِيمُ" و"إِسْمَاعِيلُ" أن يكونا مُسْلِمَيْنِ، وأن تكون الذرية مُسْلِمَةً
ومع ذلك يقول تعالى في سورة الحجرات (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) كأن الإسلام درجة أقل
فكيف يدعو إِبْرَاهِيمُ –عليه السلام- له ولذريته بالدرجة الأقل
نقول أن الإسلام الذي هو دعوة "إِبْرَاهِيمُ" هو الإستسلام كما ذكرنا، وهو أعلى درجة من درجات الإيمان
أما الإسلام في سورة الحجرات فيعنى: الإستسلام خوفًا من القتل، فالله تعالى يذم الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنهم دخلوا في الإسلام خوفًا من القتل
(قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) يعنى استسلمنا خوفًا من القتل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) وقرأت (وَأَرْنَا مَنَاسِكَنَا) بسكون الراء
المناسك هي العبادات بصفة عامة، وشعائر الحج بصفة خاصة
وكانت العرب تقول: فلان ناسك، أي العابد
فالمعنى: يا رب بين لنا وعلمنا شعائر الحج، وعلمنا الأمور التى تريدنا أن نتعبدك بها، حتى تكون العبادة على الوجه الصحيح
واستجاب الله تعالى لإبراهيم فَبَعَثَ جِبْرِيل فَحَجّ بِهِ.
فلما بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم؟ قال: نعم فسمى ذلك اليوم يوم عرفة والموضع عرفات
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَتُبْ عَلَيْنَا)
يعلمنا تعالى بهذا الدعاء سؤال التوبة، فالانسان –مهما كان صالحًا- لا يخلو من تقصير، والعبد –مهما كان صالحًا- فقد يقع في الصغائر، واذا خلا من الصغائر فهناك الخطرات، واذا خلا من الخطرات فهناك الغفلة عن الله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(التَّوَّابُ) صيغة مبالغة لكثرة من يتوب الله عليهم، وكثرة توبته على العبد نفسه
وهذا من باب التوسل بأسماء الله -عزّ وجلّ- المناسبة للمطلوب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
هذه دعوة ابراهيم –عليه السلام- لذريته أن يبعث الله تعالى فِيهِمْ، أي في الذرية (رَسُولًا مِنْهُمْ) أي واحدًا منهم يعرفونه
ولذلك كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "أَنَا دَعْوَة أَبِي إبْرَاهِيم"
(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ) يَقْرَأ عَلَيْهِمْ كِتَابك الَّذِي تُوحِيه إلَيْهِ .
(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) وهو القرآن
وهناك فرق بين أن (يَتْلُو عَلَيْهِمْ) وبين أن (يُعَلِّمُهُمُ) فمعنى (يَتْلُو عَلَيْهِمْ) أن يقرأ عليهم كما قرأ جبريل –عليه السلام- و(يُعَلِّمُهُمُ) أي يعرفهم معناها وما فيه من مواعظ وحلال وحرام
(وَالْحِكْمَةَ) وهي أحاديث الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(وَيُزَكِّيهِمْ) ويطهرهم من الأخلاق المذمومة
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب
(الْحَكِيمُ) الذي يضع كل شيء في موضعه
وهناك (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب لجبروته، ولكن جبروت الله تعالى جبروت بحكمة، ولذلك قال تعالى (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
والآية تعلمنا –مرة أخري- أن نختم الدعاء بالثناء على الله، وأن يكون الثناء متناسبًا مع الدعاء
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
)وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)
استفهام إنكاري يتضمن التوبيخ على من وقع منه هذا، والمعنى لَا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه.
(يَرْغَبُ) يقال: رغب في الشيء إذا أراده، ورغب عن الشيء إذا تركه عمدًا.
والمقصود في هذه الآية هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى، والذين وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة، وَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ وَتَرَكُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ
(إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)
السفه هو: الجهل والخفة ونقصان العقل
فالمعنى: أن الذي يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم يسفه نَفْسَهُ، أي يمتهنها ويذلها ويحتقرها ويستخف بها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تفسير آخر
)وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)
أن الذي يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم سَفِهَ نَفْسَهُ أي جهلها فلم يعلم أنها مخلوقة لله تعالى، ويجب عليها عبادة خالقها
كما جاء في الأخبار: إن الله تعالى أوحى الى داود اعرف نفسك واعرفني، فقال: يارب كيف أعرف نفسي؟ وكيف أعرفك؟ فأوحى الله تعالى اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء، واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والآية تشير الى أن الإنسان مهما بدا حكيمًا في أقواله ولبقًا في كلامه، فانه يكون سفيهاً إذا لم يلتزم بشريعة الله.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا)
(اصْطَفَيْنَاهُ) أي اخْتَرْنَاه،
من اختيار الأصفي
(فِي الدُّنْيَا) بالرسالة وبالإمامة وأنه أبو الأنبياء وبالخلة وهو أشرف الخلق بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)
يعني مع الأنبياء في الجنة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
سبب نزولها: أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه مهاجراً وسلمة إلى الإسلام، فأسلم سلمة، ورغب عن الإسلام مهاجر، فنزلت هذه الآية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
هذه الآية تعليل للأية السابقة، أو تعليل للإصطفاء
لماذا اصطفاه ربه ؟
لأن الله تعالى عندما قال له (أَسْلِمْ) أجاب على الفور وقال (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
كأن الله تعالى اصطفاه
قلنا من قبل أن الإسلام هو الإستسلام
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي استسلم واخضع (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي استسلمت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
وقال (رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعنى استسلمت لمن خضع له الكون كله، بل انني لم انتفع بهذا الكون الا بخضوعه الى الله تعالى
|