تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثامنة والثمانون
تدبر الآية (142) من سورة البقرة
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فرضت الصلاة منذ بداية نزول الوحي، وكانت الصلاة ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره، ثم أمر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالصلوات الخمس في رحلة المعراج، وكان المسلمون يتوجهون في صلاتهم الى بيت المقدس
وكان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب أن يتوجه في صلاته الى الكعبة المشرفة، فكان اذا أراد الصلاة توجه الى بيت المقدس كما أمره الله تعالى ولكن جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فكأنه صلى الى بيت المقدس والى الكعبة في نفس الوقت
فلما هاجر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة الى المدينة لم يتمكن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اذا أراد الصلاة أن يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس لأن المدينة شمال الكعبة، فاذا صلى تجاه بيت المقدس فلا بد أن تكون الكعبة في ظهره
وكانت الصلاة الى الكعبة أحب الى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الصلاة الى بيت المقدس، لأن الكعبة أحب اليه من صخرة بيت المقدس، ولأن الكعبة هي قبلة أبيه أبراهيم، ولأنه يحب مخالفة اليهود وصخرة بيت المقدس هي قبلة اليهود، ومع ذلك ظل الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصحابة يصلون الى بيت المقدس وهم في المدينة سبعة عشر شهرا
كان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اذا أراد الصلاة يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول لجبريل- عَلَيْه السَّلام- وددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها.
فَقَالَ جبريل- عَلَيْه السَّلام- إِنَّمَا أَنَا عَبْد مثلك لا أملك شيئًا، فاسأل ربك ذَلِكَ، وصعد جبريل إلى السماء
وَجَعَل النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل- عَلَيْه السَّلام- بما سَأَلَ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم جاء الأمر الى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتحويل القبلة، فكان هذا الأمر بمثابة القنبلة في مجتمع المدينة، لأن ذلك كان أول نسخ في الأسلام
وكان أكثر الهجوم من اليهود، لأن كل أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كانوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ولأن اليهود ليس عندهم في دينهم -بعد التحريف- نسخ
حتى أن جماعة من أحبار اليهود جاءوا الى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالوا له: ارجع الى قبلة صخرة بيت المقدس ونؤمن بك ونصدقك، وهم يريدون فتنته والمكر به
وقال المنافقون: لو كانت القبلة الصحيحة هي الكعبة فان صلاة المسلمين قبل ذلك غير صحيحة، ولو كانت القبلة الصحيحة هي صخرة بيت المقدس فان صلاة المسلمين الآن غير صحيحة
وقال المشركون اشتاق الرجل الى وطنه، وغدًا يعود الى دين آباءه
اذن كان موضوع تحويل القبلة موضع هجوم من كل أعداء الإسلام، سواء اليهود او المنافقون أو المشركون
صخرة بيت المقدس
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقبل هذا الهجوم على موضوع تحويل القبلة، نزلت هذه الآية الكريمة على الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تخبره بما سيقوله أعداء الإسلام، بل وأخبرت الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرد الذي يرد به عليهم
يقول تعالى
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ)
(سَيَقُولُ) السين تفيد وقوع الحدث في المستقبل القريب، بخلاف (سوف) التى تفيد الوقوع في المستقبل البعيد
(السُّفَهَاءُ) جمع سَفِيه، والسَّفِيهُ: هو الأحمق خفيف العقل ضعيف الرأي، وذلك من قول العرب: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، ونحن في التعبير الدارج نقول على الشخص الأحمق أنه "خفيف"
والمقصود بالسُّفَهَاءُ هم جميع أعداء الإسلام الذين تناولوا هذا الأمر وهم: اليهود والمنافقون والكافر
والآية تفيد أن كل من يهاجم أصلًا من أصول الدين فهو سفيه، مهما اعتقدت من حكمته ومهما حمل من شهادات علمية
وقد ضربنا مثلًا وقلنا أن غاندي شخصية حكيمة، ولكن اذا مرت به بقرة سجد لها، فهو سفيه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مِنَ النَّاسِ)
لم يقل تعالى من المنافقين أو من المشركين، وانما قال (مِنَ النَّاسِ) لأن بعض من قال هذا الكلام من المسلمين ضعيفي الإيمان، وذكرت لنا كتب السيرة أن بعض المسلمين من ضعيفي الإيمان ارتدوا عن الإسلام بعد تحويل القبلة
(مَا وَلَّاهُمْ) أي ما صرفهم
(عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)
القبلة هي ما يقابل وجه الانسان
والمعنى هو ما صرفهم عن القبلة التى كانوا يصلون اليها وهي صخرة بيت المقدس
(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)
اذن قبل أن يتحدث المنافقون واليهود بما سيقولون أخبر الله تعالى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما سيقولون، ولم يتركه تعالى يعد الرد عليهم، بل أخبر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما سيقول، فقال له الله تعالى (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)
كما يقول المثل العربي (قَبْلَ الرِّماء تُمْلأ الكَنَائِنُ)
أي قل لهم يا محمد ردًا على كلامهم (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي أن الله تعالى يملك بيت المقدس، ويملك الكعبة، ويملك جميع الاتجاهات، فله تعالى أن يخصص أي جهة فيجعلها قِبْلَةً لِمَنْ يَشَاءُ
وهو رد وجيز في ثلاثة كلمات
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
عندما تقرأ (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) تفهم أن الله تعالى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ من عباده إِلَى الصِرَاطٍ المُسْتَقِيمٍ، وهذا صحيح ولذلك الدعاء الأول لكل مسلم هو (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ونقول هذا الدعاء في اليوم سبعة عشر مرة على الأقل
ولكن يمكن أن تفهم المعنى أن مَنْ يَشَاءُ من العباد أن يهديه الله الى الصِرَاطٍ المُسْتَقِيمٍ، فان الله تعالى يهديه الى الصِرَاطٍ المُسْتَقِيمٍ
(يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعنى مَنْ يَشَاءُ أن يهتدي إِلَى الصِرَاطٍ المُسْتَقِيمٍ فان الله تعالى سيهديه الى الصِرَاطٍ المُسْتَقِيمٍ
وهذا مثل قوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)
والحديث القدسي الذي رواه مسلم (مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية دليل وحدها على أن القرآن العظيم لم يأت به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عند نفسه لسببين:
أولًا: أنه أخبر عن أمر مستقبلي وحدث، فقد أخبر أن جماعة من الناس ستتناول أمر معين وحدث ذلك بالفعل
ثانيًا: لو كان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد جاء بالقرآن من عند نفسه ما الذي يجعله يضع نفسه في هذه المخاطرة، وهي أن يتحداهم في أمر اختياري سيقع منهم وهي أن يخبر أن أعداءه سيقولون كذا وكذا، ألم يكن من الممكن بل كان هو المتوقع أن هؤلاء الأعداء يقولون أن محمدًا قد قال قرآنا أننا سنقول كذا وكذا وكذا، تعالوا نتفق ألا يتحدث أحد منا في هذا الأمر، وبذلك يطعنون في مصداقية القرآن العظيم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|