تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثانية والتسعون
تدبر الآيات من (148) الى (150) من سورة البقرة
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
(وَلِكُلٍّ) يعنى وَلِكُل أمة، وَلِكُلّ صاحب ملة أو دين، سواء يهود أو نصاري أو غيرهم
(وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي جهة وقبلة يتوجهون اليها في صلاتهم
والمقصود أنه ليس هناك جهة معينة ثابتة في كل الملل، فَإِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ كَانَا يتوجهان الى الْكَعْبَةَ، واليهود يَسْتَقْبِلُونَ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالنَّصَارَى يتوجهون الى الْمَشْرِقِ، وربما الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ يَسْتَقْبِلُونَ جِهَاتٍ أُخْرَى
فاذن موضوع القبلة ليس من ثوابت الدين الذي لاتتغير كَتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وانما هو من الفروع التى تتغير بتغير حال الأمم
فاذا كان الأمر كذلك فلماذا كثرة الجدال والمشاغبة في موضوع القبلة من قبل يهود المدينة، حَتَّى جَعَلُوهُ مُسَوِّغًا لِلطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ وَالتَّشْرِيعِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)
الْخَيْرَاتِ: جمع خيرة وهي الأعمال الصالحة
فالمعنى أنَّ مُخَّ الدِّينِ وَجَوْهَرَهُ هُوَ فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ
كأن الله تعالى يقول ليهود الميدنة، أنتم اكتفيتم من الدين بالجدل والمراء في موضوع القبلة وغيرها، وتركتم رُوحِ الدِّينِ وَمَقْصِدِهِ، وهو عمل الخير
يقول الإمام "محمد عبده" في تفسيرة "المنار" الآية اشارة كذلك للمسلمين أن يتركوا الجدال والمراء وأن ينصرفوا الى عمل الخير
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
دائمًا حين يكون الحديث عن الآخرة يكون الأمر بالإسراع والسباق والمنافسة، وذلك مثل قوله تعالى في سورة آل عمران (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ( وفي سورة الحديد (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه(
وفي سورة الجمعة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)
في سورة الذاريات (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)
وحين تحدث تعالى عن نعيم الجنة يقول تعالى في سورة المطففين (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)
ثم حين تحدث الله تعالى عن الدنيا قال تعالى في سورة الملك (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا)
أَيْنَ مَا تَكُونُوا، وسواء كنتم في قمم الجبال، أو أعماق البحار والمحيطات، أو حتى في بطون السباع، أو حواصل الطيور، يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا يوم القيامة للحشر والحساب
وكأنه تعالى جاء بحيثية الإستباق الى فعل الخيرات، وهو أن الله تعالى سيجمعنا يوم القيامة ليوم الحساب، وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية.
ثم ذكر الله تعالى الدليل على ما ذكره فقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو تعالى لا يعجزه أن يحشر الناس يوم القيامة مهما بعدت المسافات، لأنه تعالى (الْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
في هذه الآيات تكرر الأمر بالتوجه الى الكعبة ثلاثة مرات، مع أن القرآن العظيم قائم على الإختصار، ومع ذلك تكرر الأمر ثلاثة مرات، والثلاثة هي أقل الجمع
والسبب كما قلنا أن موضوع تحويل القبلة هو اختبار للمؤمنين، وهو اختبار صعب، كما قال تعالى (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) لأن تحويل القبلة كان أول ما نسخ من الشريعة، فأراد الله تعالى أن يكون عونًا للمؤمنين على اجتياز هذا الاختبار الصعب، فوجه اليهم الأمر ثلاثة مرات، وأكد الأمر في الآية (145) فقال (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) والجملة مؤكدة بأن ومؤكدة باللام
اذن هذا التكرار الذي يلفت النظر دائمًا ونحن نقرأ القرآن العظيم، الهدف منه تثبيت قلوب المؤمنين، وتطمين نفوسهم، وحتى يكون عونًا لهم على اجتياز اختبار تحويل القبلة، كما قال تعالى في آية سابقة (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) اذن فالله تعالى لا يريد أن يضيع ايمان المؤمنين، وحين يختبر ايمانهم يريد لهم أن ينجحوا في هذا الإختبار، وقد كان يمكن أن يوجه لهم الأمر مرة واحدة، ولكنه تعالى يوجه اليهم الأمر مرة ثانية وثالثة حتى يكون عونًا لهم على النجاح في الاختبار
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
(لِئَلَّا يَكُونَ) أي لكي لا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ في موضوع القبلة
(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) هذا استثناء والمعنى أن الَّذِينَ ظَلَمُوا سيكون لهم حجة على المؤمنين ولكنها حُجَّةٌ بالباطل
ومعنى حُجَّةٌ بالباطل أي هي حُجَّةٌ من وجهة نظر أهل الباطل أنفسهم فقط، ولكنها في الحقيقة ليست حجة، كما قال تعالى في سورة الشوري (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) أي باطلة ذاهبة عِندَ رَبِّهِمْ
فالذي يبحث عن الحقيقة والمنصف لن يكون له حُجَّة في مواجهة المؤمنين، أما الَّذِينَ ظَلَمُوا فسيكون لهم حجة، ولكنها حُجَّةٌ بالباطل، وذلك مثل قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)
اذن فالله تعالى يخبر الجماعة المؤمنة أنهم سيواجهون في حربهم مع أهل الباطل، من سيجادلهم ومن سيكثر جدالهم، ليس هذا فحسب بل ومن سيكون له حجة عليهم، ولكنها حجة بالباطل، أي حُجَّةٌ من وجهة نظر أهل الباطل أنفسهم، ولكنها في الحقيقة ليست حجة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) أي فلا تخشوا هؤلاء الناس أن يكون لهم عليكم حجة بالباطل (وَاخْشَوْنِي) ولكن َاخْشَوْنِي فِي ترك أمري فِي أمر القبلة
وهذه قاعدة في حياة كل مؤمن ألا يخشى حديث الناس عليه بالباطل وانما يخشى الله تعالى
(وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بهدايتى لكم
لأن لعل في كلام البشر تفيد الترجي، وفي كلام الحق تفيد التحقيق
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
|