تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السادسة والتسعون
تدبر الآية (158) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
)إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
نعلم أن أصل السعي بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ أن إِبْرَاهِيمَ –عليه السلام- ترك السيدة هاجر وابنه اسماعيل –عليه السلام- وهو طفل رضيع فِي مَكَانِ البيت الحرام، وترك معهما تمرًا وماءً
فلما مضى قالت له: يَا إِبْرَاهِيمُ! أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فلم يرد عليها ولم يلتفت اليها، حتى قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، كأن ابراهيم –عليه السلام- يريد لها أن تصل الى النتيجة أو الى الرد بنفسها، فَقَالَتْ لَهُ: (آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟!) قَالَ (نَعَمْ!) فقَالَتْ له: (إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا)، ثُمَّ رَجَعَتْ
وَجَعَلَتْ السيدة هاجر تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى
فَانْطَلَقَتْ السيدة هاجر فصعدت الى جبل الصفا تنظر لتجد أي انسان، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ موضع اسماعيل هرولت، وكأن صوت بكاء اسماعيل كان يحثها على أن تبذل مزيد من الجهد، ثم صعدت الى جبل الصفا تنظر لتجد أي انسان، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، حتى بلغ بها الجهد لأن اجمالى السبعة أشواط حوالى ثلاثة كيلو مترات، وفيها هرولة وصعود الى الجبل، ونحن نسعي على الأرض الرخامية والجو المكيف ونتعب، فما بالك بامرأة عطشانة ترضع وتسعي في الصحراء، والأرض رملية تغوص فيها الأقدام، والجو شديد الحرارة
ثم أرسل الله تعالى جبريل فضرب بجناحه في موضع قدم اسماعيل فانفجرت بئر زمزم
ونحن نعلم أن الذي يذهب الى الحج أو العمرة يفعل مثلما فعلت السيدة هاجر بالضبط، فنحن نسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط كما سعت السيدة هاجر، ويهرول الرجال بين علامتين باللون الأخضر في نفس الموضع الذي هرولت فيه السيدة هاجر
لماذا اختار الله تعالى أن نكرر ما فعلته السيدة هاجر بالضبط ؟
حين قالت السيدة "هاجر" مقالتها الشهيرة: (إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا) كان ذلك قمة التوكل على الله، وقمة الارتباط بالمسبب لا بالأسباب، ومع ذلك لم تتواكل السيدة هاجر، وتترك الأخذ بالأسباب، وتجلس بجوار وليدها تنتظر الماء وتدعو الله تعالى، ولكنها قامت، وأخذت بالأسباب، وبذلت أقصى ما يمكن من جهد، فلما فعلت أعطاها الله تعالى ما سألت بل وأكثر مما سألت كثيرًا، فقد سألت بعض الماء لتشرب، فاعطاها أعظم بئر مياه في العالم، وهو بئر زمزم
ولو كانت السيدة هاجر عندما صعدت على جبل الصفا أو المروة قد رأت قافلة معها ماء، أو رأت بئرًا أو شيئًا لكان الله قد أعطاها بالسبب المباشر وهو بحثها عن الماء
ولكن الله تعالى يريد أن ينتهي جهدها بغير نتيجة، ثم تعود الى وليدها فتجد الماء قد نبع بسبب غير فاعل وهو ضربة قدم وليدها
لأن ضرب الطفل للأرض بقدمه سبب غير فاعل، ولكن الله تعالى أراده سببًا حتى يستبقي السببية
اذن حين يؤدي الحاج والمعتمر ما فعلته السيدة هاجر بالضبط، لترسيخ ابمان المسلم بالمسبب وعدم اهماله للسبب، وهذا هو عبقرية التوكل في الإسلام، أن تأخذ بالأسباب دون أن يتعلق قلبك بالأسباب، وانما يكون تعلق قلبك بمسبب الإسباب
وهذا هو الفرق بين التوكل والتواكل.
فليس في الاسلام تواكل، وانما الجوارح تعمل والقلوب هي التى تتوكل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقصة هاجر وابنها اسماعيل هي الرابط بين هذه الآية الكريمة والآيات السابقة، لأن الآيات السابقة تحدث الله تعالى فيها عن أنواع من المحن التى يبتلى بها عباده المؤمنين فقال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِالصَّابِرِينَ) فأراد الله تعالى أن يعلمنا أنه تعالى وان كان سيبتلى عباده المؤمنين بأنواع من المحن الا أن فرجه قريب، وأنظر الى حال "هاجر" كيف أغاثها، وكيف جعل فعلها طاعة لجميع المكلفين الى يوم القيامة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقصة الآية أن قريشًا كانت في الجاهلية تضع صنمًا عَلَى الصفا يُقَالُ لَهُ إسَاف، وعلى المروة صنم يُقَالُ لَهُ نائلة
وقيل أن هذين الصنمين كانا رجلًا وامراة زنيا في جوف الكعبة، فمسخهما الله تعالى حجارة، ثم أخرجهما العرب من جوف الكعبة، ونصبا تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم حولا الى الصفا والمروة ونصبا هناك
وكان السعي بين الصفا والمروة مما بقي من ديانة ابراهيم –عليه السلام- فكانت العرب تسعي بين الصفا والمروة فاذا وصلا الى إسَاف ونائلة يستلمهما ويتمسح بهما ويطوف حولهما، فانظر كيف يتلاعب الشيطان بالناس
وكانت الصحابة في الجاهلية تفعل ذلك، فلما أراد الصحابة الحج والعمرة تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة لأن ذلك من أعمال الجاهلية، بل في عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة كانت نائلة واساف لا تزال على الصفا والمروة، ولذلك سال البعض الرسول -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- عن ذلك
فرد الله تعالى بأنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وليس مِنْ شَعَائِرِ الجاهلية
لأن السعي بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ –كما قلنا- مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ –عليه السلام- ثم جاءت قريش فاعتدت على حرمة هذا المكان المقدس، ووضعت عليها الأصنام، فاذا جاء الإسلام وأحيا ملة إِبْرَاهِيمُ، فينبغي أن يعود الى السعي بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ كما كانت على عهد ابراهيم، لا أن يتركها بسبب اعتداء المشركين على حرمتها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قوله تعالى (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) شَعَائِرِ جَمْعُ مَشْعَرٍ، وهو العلامة، كما نقول: شعار المحافظة، أو شعار البلدة، أو شعار النادي
وكما يقال: إِشْعَارُ الْهَدْيِ، وهو علامة على سنام الْإِبِلِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هديًا للكعبة فلا يتعرض له أحد
اذن فمعنى: شَعَائِرِ أي علامات
وقوله تعالى (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي: مِنْ عَلَامَاتِ دِينِ اللهِ التى يتعبد بها
لأن العبادات منها خفية: بَيْنَ الإنسان وربه؛ ومنها أشياء ظاهرة وهي الشعائر.
فقوله تعالى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي أن السعي بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ عَلَامَاتِ دِينِ اللهِ التى يتعبد بها، وليست مِنْ شَعَائِرِ الوثنية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ)
الحج لغة هو القصد
والعمرة هي الزيارة، لآن الزائر يعمر البيت
والسعي بين الصفا والمروة ليست عبادة بذاتها، ولكنها تصير عبادة اذا كانت ضمن مناسك الحج أو العمرة، ولذلك بين الله تعالى الموضع الذي يصير به السعي عبادة فقال (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ)
المسعي قديما
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) الْجُنَاحُ هو: الْمَيْلُ عن القصد، كما نقول جنحت السفينة أي خرجت الى الماء القليل، وكما نقول "جنحة" أي جريمة، فهي ميل عن الطريق المستقيم، وأصلها جناح الطائر لأن جناح الطائر فيه ميل
اذن (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) أي فلا ميل في ذلك عن صحيح النسك، ولا حرج عليكم في ذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) التَّطَوُّفُ هُوَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
ونحن نعلم أن الطواف هو الدوران حول الشيء
ولذلك يتوقف الكثير أمام هذه الآية، ويقول نحن نسعي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فلماذا قال تعالى (يَطَّوَّفَ بِهِمَا) نقول أن الدوران معناه ان تبدأ من نقطة وتعود اليها مرة أخري
وهذا هو الذي يحدث عند السعي بين الصفا والمروة، فهو يبدأ من الصفا ويذهب الى المروة، ثم يعود الى الصفا ثم الى المروة وهكذا، وهكذا يصير الأمر طواف
فهو في حقيقة الأمر طوافًا كما قال الله تعالى وان عرف اصطلاحًا بِالسَّعْيِ
المسعي حديثا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) وقرأت (ومن يطَّوَّع خَيْرًا)
التطوع: لغة هو الإتيان بالفعل طوعا لا كرها،
والمقصود هنا التطوع بتكرار الحج والعمرة بعد الفريضة ، أو المقصود هو كل أنواع الطاعات من حج وعمرة وصلاة وزكاة وغير ذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)
الله شَاكِرٌ أي يثيب العامل بأكثر من عمله، فالحسنة بعشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة
ثم قرن العلم بالشكر (فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) لاطمئنان العبد الى أن عمله لن يضيع، فانه معلوم عند الله تعالى
فاذا علم العبد أن ربه شَاكِرٌ وعَلِيمٌ فسيطمئن غاية الإطمئنان الى أن عمله لن يضيع وأنه سيأخذ أكثر من عمله
جبل الصفا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بقي أن نقول أن البعض أخذ من قوله تعالى (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أن السعي بين الصفا والمروة ليس ركنًا من أركان الحج، لأن (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) يعنى لا اثم عليه ولا خطأ عليه ان فعل، فهى تدل على الإباحة
ونقول أن ذلك ليس صحيحًا لأن قوله تعالى (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) نزلت بسبب ذكرناه، وهو أن المسملون تحرجوا من أن يقوموا في نسكهم بعمل كانوا يقومون به في جاهليتهم
لذلك لما قال "عروة بن الزبير" ذلك لخالته السيدة عائشة ، قالت له "بئس ما قلت با ابن اختى، ولو كانت كما تقول لكانت : " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما "
ولذلك فجمهور العلماء بأن السعي بين الصفا والمروة من أركان الحج والعمرة، فاذا لم يسعي بين الصفا والمروة فسد حجه أو عمرته، وهناك رأي بأنه واجب يجبر بدم، وهناك رأي ضعيف جدًا بأنه سنة
والقول بأنه سنة رأي غير صحيح لأن الرسول -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- سعي بين الصفا والمروة وقال في حديث صحيح "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" ومعنى كتب أي أوجب، مثل (كتب عليكم الصيام)
وقالت عائشة في حديث رواه البخاري ومسلم: "والله ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة"
جبل المروة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من اللطائف في كتب التفسير: قال مجاهد : - رحمه الله - حج موسى عليه السلام على جمل أحمر وعليه عباءتان قطوانيتان، فطاف البيت ثم صعد الصفا ودعا ثم هبط إلى السعي وهو يلبي فيقول لبيك اللهم لبيك.
فقال الله تعالى لبيك عبدي وأنا معك فخر موسى عليه السلام ساجداً.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من المعاني التى ينبغي أن يستحضرها العبد وهو في السعي بين الصفا والمروة، والتى ذكرها الامام الغزالى في "أسرارالحج والعمرة"
"السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت: فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى إظهاراً للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة كالذي دخل على الملك وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد? فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى.
وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردده بين كفتي الميزان في عرصات القيامة وليمثل الصفا بكفة الحسنات والمروة بكفة السيئات. وليتذكر تردده بين الكفتين ناظراً إلى الرجحان والنقصان متردداً بين العذاب والغفران".
|