تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السابعة والتسعون
تدبر الآيات من (159) الى (163) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول الله تعالى في الآية (146) من سورة البقرة (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ولم يذكر الله تعالى في هذه الآية وَعِيدَ وعقاب هَؤُلَاءِ الْكَاتِمِينَ، لذلك يذكر الله تعالى عقابهم في هذه الآية فيقول تعالى
) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى (
والكتمان هو الاخفاء وهو عكس الإفشاء
وهذه الآية نزلت في علماء اليهود والنصاري الذين كتموا أمر الرسول -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وصفته المذكورة في كتبهم بمنتهي الدقة، بل وغيروا وحرفوا في هذه الصفات
كما قلنا أن -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- صفته في التوراة أنه ربعة من الرجال، فيكتبون أنه قصير
وصفته أنه أبيض مشرب بحمرة، فيحرفون ذلك ويكتبون أنه أسمر
في التوراة يخاطب الله تعالى موسى –عليه السلام- ويقول (وسوف أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مثلك من بنى إِخْوَتِهِمْ) وبنى إخوتهم هم العرب أبناء إسماعيل –عليه السلام- فيحرفون النص ويكتبون (وسوف أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ )
واليهود لم يكتموا أمر الرسول -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فقط ولكنهم كتموا أمر عيسي –عليه السلام- كذلك، وزعموا أن البشارة به لغيره، ولا يزالون ينتظرونه الى الآن
والآية عامة تشمل كذلك كتم أي نوع من أنواع العلم النافع سواء كان علمًا دينيًا أو دنويًا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عِنْدَهُ ، فَكَتَمَهُ أُتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ النَّارٍ"
وهذا منتشر كثيرًا في المعاهد التعليمية، ومنتشر في اوساط العمل، حيث يخشى كل واحد أن ينقل العلم الى زميله حتى لا يتميز عنه
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كذلك يقول: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ أَبَدًا، ثُمَّ تَلَا هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى.... )
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) أي في التوراة والانجيل
(أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ) أصل اللعن هو الطرد والإبعاد، والمعنى أن هؤلاء هم المطرودين والمحرومين من رحمة الله الْخَاصَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
(وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) وهم الملائكة والمؤمنون
وقال العلماء أن (اللَّاعِنُونَ) تشمل كل شيء، فالحيوانات والحشرات والنباتات تلعنهم اذا منع المطر ويقولون: مُنعنا القطرَ من شؤم ذنوب عُصَاةِ بَنِي آدَمَ، لَعَنَ اللَّهُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ.
حتى الجمادات والأرض تلعنهم لأنهم يعصون الله عليها، والجمادات والأرض مسبحة وطائعة لله تعالى
فكل ما في الوجود يشترك في لعنهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) يعنى عن الكتمان وعن الشرك ودخلوا في الإسلام
(وَأَصْلَحُوا) يعنى وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا
(وَبَيَّنُوا) أي وَبَيَّنُوا صفة الرسول -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- المذكورة في كتبهم ووجوب اتباعه
لأنه لا يكفي في التوبة أن يقول القائل "أنا تبت" حتى يظهر منه خلاف ما كان عليه، فان كان تاركًا للصلاة، فيجب عليه الصلاة، واذا كان لا يخرج الزكاة، يجب عليه اخراجها، ومن كان يكتم أمر الرسول -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يجب عليه أن يظهر أمره ويبينه للناس
(فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي أقبل توبتهم
(وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(التَّوَّابُ) الله تعالى هو التَّوَّابُ لأنه تعالى شرع لعباده التوبة، وألهم العبد ووفقه للتوبة، ثم قبل التوبة
والصيغة مبالغة، لكثرة من يتوب الله تعالى عليهم، وكثرة توبته على العبد الواحد نفسه، وعظم الذنوب التى يتوب عليها
(الرَّحِيمُ) قرن تعالى رحمته بالتوبة، لأنه تعالى من رحمته: شرع التوبة لعباده، ومن رحمته تعالى الهم العبد ووفقه للتوبة، ومن رحمته تعالى أنه يقبل التوبة بعد التفريط العظيم من عباده
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
يخبر تعالى بأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا نبوة الرسول -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وكذبوه، وَمَاتُوا وَهُمْ على كفرهم، فلم يدركوا الفرصة التى كانت سانحة لهم بالتوبة
(أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ) أي أُولَئِكَ هم المطرودين والمحرومين من رحمة الله الْخَاصَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
(وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) المقصود بالناس هنا هم الْمُؤْمِنُونَ ، كأن غير الْمُؤْمِنُونَ لَيْسُوا مِنَ النَّاسِ ولا يعتد بهم، كما تقول عن أحدهم (هذا ليس بنى آدم)
وقيل أن المقصود بالناس كل الناس، لأن الكافر يلعن نفسه يوم القيامة، ويلعن الظالمون بعضهم بعضا، يقول تعالى في سورة العنكبوت (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) وفي موضع آخر (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها.)
وقد روي أن الْكَافِرَ يُوقَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَلْعَنُهُ اللَّهُ، ثُمَّ تَلْعَنُهُ الْمَلائِكَةُ، ثُمَّ يَلْعَنُهُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ
ولعنة الله كافية، ولكنه تعالى ذكر لعن الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، ليعلم أنه لن يَرْأَفَ بِهِمْ رَائِفٌ، ولن يَشْفَعَ لَهُمْ شَافِعٌ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
(خَالِدِينَ فِيهَا) أي خالدين فِي اللَّعْنَةِ أوفِي النَّارِ
والمعنى واحد لأن الْخُلُودَ فِي اللَّعْنَةِ يترتب عليها الْخُلُودِ فِي النَّارُ
(لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ طرفة عين
كأنهم من يأسهم لا يرجون النجاة من العذاب، ولكنهم يرجون فقط أن يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، كما قال تعالى في سورة غافر (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (49)
ولكن هيهات، فان من عذاب أهل النار أن كل يوم هو أشد عذابًا من اليوم السابق عليه، لذلك قال العلماء أن أشد آية نزلت في أهل النار هي قول الله تعالى في سورة النبأ ( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا)
(وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) يُنْظَرُونَ من الإنظار وهو التأخير او الإمهال، كما قال تعالى في سورة الأعراف (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
فالمعنى أنهم لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب، بل يبدأ عذابهم منذ لحظة مفارقتهم للحياة، ثم لا يخفف عنهم بعد ذلك
وقيل أنه من النظر، فهؤلاء لا ينظر الله تعالى اليهم أبدًا وهذا قمة الاهمال لهم، كما قال تعالى في سورة آل عمران (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
هذه هي قضية الدين الأساسية، لأن الإسلام جاء والناس تعبد مئات أو آلاف الآلهة، وكانت العرب تضع على الكعبة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما بعدد القبائل العربية، كل قبيلة تضع الصنم الخاص بها، فاخبر تعالى بأن إله جميع الخلق واحد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهناك فرق بين الواحد وبين الأحد
فواحد يعنى ليس له ثان ولا مثيل ولا نظير
فهو تعالى ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
ولا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى
وأحد يعنى ليس مركبًا ولامكونًا من أجزاء، لأنه لو كان مركبًا من أجزاء فكل جزء يحتاج الى الجزء الآخر لتكوين الكل
ثم وصف تعالى نفسه فقال (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ترغيباً في عبادته وحثاً على طاعته
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " إن في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم "إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" و"الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحي القيوم"
وروي أن النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ رَجُلًا ، يَقُولُ" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ"قَالَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : "لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ"
اذن القاسم المشترك بين كل تلك الأحاديث، هو "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" أي الإقرار والشهادة أنه تعالى المعبود بحق
فاذا اردت أن تسأل الله تعالى بأسمه الأعظم، فقل "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ"
|