Untitled Document

عدد المشاهدات : 2810

الحلقة (103) من تدبر القُرْآن العَظِيم تدبر الآيات (174) و (176) من سورة البقرة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُه

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الثالثة بعد المائة
تدبر الآيات (174) و (176) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ 
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ)
قلنا من قبل أن كلمة (يَكْتُمُونَ) تدل على أن هناك مجهود يبذل في سبيل اخفاء الحقيقة، كأن الحقيقة من شدة وضوحها تحتاج الى مجهود كبير حتى لا تظهر
كما تقول لأحدهم "اكتم هذا السر" لأن اخفاءه يحتاج الى مجهود، حتى أن دراسة بريطانية تقول أن كتمان السر يدمر طاقة الانسان
ولذلك ننصح جائما بأن تختفظ بسرك لنفسك، لأنك حين تفشي سرك لأحد، وتقول له "أكتم السر" فأنت تعترف بلسانك بأنك تطلب منه أمر شاق
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) من صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-
(مِنَ الْكِتَابِ) أي في الْكِتَابِ وهو التوراة والانجيل
وهذه الآية نزلت في أحبار وعلماء اليهود والنصاري الذين أخفوا صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- والمذكورة في كتبهم بمنتهي الدقة، كما قال تعالى في الآية التى مرت بنا في سورة البقرة (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )
وهذا الاخفاء قد يكون اخفاء الآيات الدالة على نبوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وقد يكون اخفاء معنى الآيات، بتفسيرها تفسيرًا خاطئًا
وكما نقول دائمًا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية وان نزلت في اليهود، لكنها عامة في كل من كتم شيئًا من الحق، وخاصة علماء المسلمين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَيَشْتَرُونَ بِهِ) الشراء هو أن تأخذ شيئًا مقابل شيء آخر، فأنت اذا اشتريت قميصًا بمائة جنيه، فهذا معناه، أنك أخذت القميص مقابل المائة جنيه
فقوله تعالى (يَشْتَرُونَ بِهِ) أي انهم كتموا صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مقابل هذا الثمن
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقوله تعالى (ثَمَنًا قَلِيلًا) ليس المقصود أن المقابل كان قليلًا فِي ذَاتِهِ، ولكنه قليل في مقابل الذنب العظيم الذي ارتكبوه، وهي كتم صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- والكفر بالله تعالى
لأن قلة الثمن وغلو الثمن أمر نسبي يتحدد بقيمة السلعة، فقد تشتري قميصًا بخمسمائة جنيه ويقال لك أنه غالى الثمن، وقد تشتري شقة بنصف مليون جنيه وتكون هكذا رخيصة الثمن
فلو أخذوا الدنيا كلها في مقابل كتم صفة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- والكفر بالله تعالى، فهو في الحقيقة قليل، كما قال تعالى (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)
وهذا الثمن القليل هو ما كان يتمتع به هؤلاء الأحبار والرهبان من أموال وهدايا ومكانة اجتماعية، فلما بعث الرسول  -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- خافوا ذهاب هذه المكاسب والمنافع عنهم
(وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فِي بُطُونِهِمْ) ما فائدة قوله تعالى (فِي بُطُونِهِمْ) مع أن الأكل لا يكون الا في البطن
أولًا قوله تعالى (فِي بُطُونِهِمْ) زيادة بيان، كما تقول: سمعت باذني، رأيته بعينى، كتبت بيدي، ذهبت بقدمي، (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ)
الفائدة الثانية لقوله تعالى (فِي بُطُونِهِمْ) أي ملء بطونهم، كانت العرب تقول: أكل في بعض بطنه، وكانت تقول 
"أكل فلان في بطنه" أي أكل ملأ بطنه 
الفائدة الثالثة لقوله تعالى (فِي بُطُونِهِمْ) لبيان أن الأكل حقيقي وليس مجازي، لأن منه الممكن أن يكون التعبير مجازيًا، كقول أحدهم: أكل مالى، أو أكل مال اليتيم، يقول تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا)  
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ)
أي أن الله تعالى يعاقب هؤلاء على كتمانهم بأكل النار في جهنم
لأن الجزاء من جنس العمل، فالثمن القليل الذي أخذوه ليملأوا بطونهم، عاقبهم الله تعالى  عليه بأن يملأ بطونهم نارًا يوم القيامة 
ومعنى آخر أن هؤلاء الكاتمين مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا ما يوردهم النَّارَ، والا ما يدخلهم النَّارَ
كما قال تعالى في سورة يوسف (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) مع أنه رأي أنه يعصر عنبًا، ولكن سماه بما يؤول اليه
وكما ورد في الحديث " الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) المقصود بعدم الكلام هو الاهمال وعدم الاعتناء والاستخفاف والاهانة
كما تقول فلان لم يكلمنى، أي أنه أهملنى واستخف بي
كما يقصد بذلك عدم الكلام فعلًا، أي أن الله تعالى لا يتحدث اليهم يوم القيامة، وانما حديثه للمؤمنين فقط
بعض المفسرين يقول، المقصود لا يكلمهم كلام رضا ورحمة، بدليل قوله تعالى في في سورة المؤمنون (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ)
ونقول أن هذا لا يعد كلامًا، فأنت اذا قلت لأحدهم: لا تتحدث معى، فهذا ليس معناه أنك تتحدث اليه، ولكن تخبره أنك لا تتحدث اليه
أو تقول فلان رفض أن يتحدث لى، فيقال: كيف ؟ فتقول: جئت أتحدث الىَّ فقال لى: لا تتحدث الى، فاذن قوله "لا تتحدث الى" لا يعد كلامًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) الزكاة تعنى الطهارة، فقوله تعالى (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) أي ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم، فسيأتون يوم القيامة يحملون هذه الذنوب ليعاقبون عليها
ولذلك قال تعالى بعدها:
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) اي عذاب مؤلم مُوجع 
لأنهم كتموا منهج الله عن خلق الله، فتسببوا في إضلال الخلق، فعليهم وزر ضلالهم وأوزار من أضلوهم 
 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)
(أُولَئِكَ) أي هؤلاء الكاتمين
(الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) قلنا أن الشراء هو أن تأخذ شيئًا مقابل شيء آخر، والباء تدخل على المتروك
مثال: اشتريت قميصًا بمائة جنيه، اذن تركت المائة جنيه، وأخذت القميص
فحين يقول تعالى أنهم اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، فالمعنى أن الهدي كان معهم، وكان بين أيديهم، فتركوه وتخلوا عنه، وأخذوا بدلًا منه الضَّلَالَةَ
(وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) فالمغفرة من الله تعالى كانت سانحة وكانت بين أيديهم ولكنهم تركوها وتخلوا عنها مقابل العذاب 
وهذه هي أعظم خسارة في الدنيا والآخرة
لأن أعظم خسارة في الدنيا هي الضلالة، وأحسن شيء في الدنيا هو الاهتداء
وأخسر شيء في الآخرة العذاب، وأحسنها المغفرة
اذن فهم قد تركوا أحسن شيء في الدنيا والآخرة، وأخذوا أخسر شيء في الدنيا والآخرة
وجاء بقوله تعالى (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) قبل قوله تعالى (وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) لأن شرائهم  الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، نتج عنه شراء الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) 
 (ما) أداة تعجب، ولكن الأسلوب يطلق عليه "أسلوب تعجيب" كأن المتكلم يريد للمتحدث اليه أن يتعجب من حديثه
فالله تعالى يريد لقارئ القرآن أن يتعجب من حال هؤلاء الكاتمين لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وهذا مثل مجرم دخل السجن، ثم خرج ثم ارتكب جريمة أخري وقبض عليه، فلما قبض عليه قال له الضابط: ما أشد حبك للسجن
وهذا المجرم بالطبع لا يحب السجن، ولكن المعنى: أنت تتصرف كأنك تحب السجن، وهو ليس كذلك
فالمعنى أن هؤلاء يتصرفون كأن لهم صبر على النار، وهم ليسوا كذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
البعض فسر الآية أن الله تعالى يتعجب منهم، ورد كثير من المفسرين بأنه يستحيل في حق الله أن يتعجب، لأن التعجب انفعال - يحدث في النفس عند الشعور بأمر يجهل سببه وهو غير جائز في حقه - تعالى - لأنه لا يخفى عليه شيء
وبالرغم من أنني فسرت الآية بأنها أسلوب "تعجيب" وليس "تعجب" كما ذكرت
أقول إنه ليس هناك ما يمنع أن يتعجب الله تعالى، لأن عجب الله تعالى ليس انفعالًا مثلنا لأن عجبه ليس كعجبنا
فالله تعالى يغضب، ولكن غضبنا ليس كغضبه تعالى، فنحن حين نغضب بحمر وجهنا ونفقد أعصابنا، وهذا يستحيل في حق الله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن فقوله تعالى ) فما أصبرهم على النار) يعنى التعجيب من أمرهم أنهم يتصرفون كأن لهم صبر على النار، وهمليسوا كذلك
7
(فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
(ذَلِكَ) أي ذَلِكَ الوعيد الشديد، وذَلِكَ العذاب لهم
(بِأَنَّ) يعنى لأن (اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ) وهو القرآن العظيم، فكفروا به
 (بِالْحَقِّ) أي نزل بالأخبار الحق الصادقة
اذن فهم استحقوا هذا العذاب لأن الله تعالى وضح الأمر لعباده فأنزل القرآن العظيم بالأخبار الحق الصادق، ولكنهم رفضوه وكفروا به 
)وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ (وهو القرآن العظيم، فقالوا أنه شعر، وكهانة، وسحر، وأساطير الأولين، ويعلمه بشر وغير ذلك
(لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) أي في خلاف للحق وضلال بعيد
وأصله من الشق وهو الجانب, فكأن كل واحد من الفريقين في شق أَيْ فِي جَانِبٍ غير شق صاحبه .
 *********************************