تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السابعة بعد المائة
تدبر الآية (182) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218
❇ ❇ ❇ ❇
تحدثنا في اللقاء السابق عن قول الله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
وقلنا أن هذه الآية الكريمة نزلت لأن العرب كانوا يوصون بكل أموالهم لأبنائهم، ولا يتركون شيئًا لا لآبائهم ولا لأي من أقاربهم،
فأراد الله تعالى أن يخرجهم من هذا الأمر، ولكن بالتدرج، والتدرج كما قلنا من خصائص التشريع في الاسلام
ففرض الله تعالى في هذه الآية الوصية للوالدين والأقربين، دون تحديد لمبلغ الوصية، ولا تحديد حتى للأقارب الذين يوصى اليهم، وذلك تمهيدًا لإدخال الأب والأم وبعض الأقارب في أحوال معينة في الميراث فرضًا بعد ذلك
وبعد هذا التمهيد نسخت هذه الآية بآيات الميراث في سورة النساء، فحدد الله تعالى نصيبًا مفروضًا للأب، ونصيبًا مفروضًا للأم، ونصيبًا بعض الأقارب في أحوال معينة
ويقيت الآية وهي الوصية بما لا يتجاوز الثلث للوالدين اذا كانوا لا يرثون، كأن يكون الإبن مسلمًا مثلًا، والأبوين ليسا مسلمين، وكذلك الوصية للأقارب اذا كانوا لا يرثون خاصة اذا كانوا فقراء، وكل ذلك على سبيل الندب، وليس الفرض
❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
أي فمن بدل الوصية أي بَعْدَمَا سمعها أو علمها من الموصى (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي أن الذنب يقع على من يبدل الوصية، وليس على الموصى شيء (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وهذا تهديد شديد ووعيد لكل من يبدل الوصية
❇ ❇ ❇ ❇
في حالة الوصية هناك ثلاثة أطراف: الموصى، والموصى له، والوارث
ويريد الله تعالى أن يحتاط لجميع الأطراف
فبعد أن احتاط الله تعالى للموصى في الآية السابقة، بأن هدد وتوعد من يحاول أن يغير في الوصية
يريد الله تعالى أن يحتاط للموصى له وللوارث
وذلك بان ياخذ كل طرف حقه، وألا يأخذ طرف منهما أكثر من حقه على حساب الآخر
لأن الموصى له اذا أخذ أكثر من حقه، فان الوارث في هذه الحالة سيأخذ أقل من حقه
فيقول تعالى
(فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182(
(فَمَنْ خَافَ) أي فَمَنْ خشى ومَنْ علم
(مِنْ مُوصٍ) وقرأت (مُوَصِّ) بفتح الواو وتشديد الصاد
وهما لغتان والمعنى واحد
(جَنَفًا أَوْ إِثْمًا)
الجنف: أصل الجنف هو الميل، ولذلك يقال رجل أجنف أي في أَحدِ شِقَّيْه ميل عن الآخر .
وتستخدم في الميل عن الحق الى الباطل
والمعنى هنا: هو البعد عن الحق في الوصية أوالظلم في الوصية خطئًا وجهلًا وليس عمدًا، لأن الرجل الأجنف ليس له يد في ان يكون أجنف، وهو لا يتعمد أن يكون في أَحدِ شِقَّيْه ميل عن الآخر .
أما الإثم فهو الظلم في الوصية عمدًا، لأن معنى الإثم أن الإنسان يعلم أن هذا ذنب ويتعمد أن يرتكبه
فاذن الجنف هو الظلم في الوصية بالخطأ أو جهلًا، أما الإثم فهو تعمد الظلم في الوصية
يريد الله تعالى أن يحتاط لجميع الأطراف
❇ ❇ ❇ ❇
قوله تعالى (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي بين الموصى لهم وبين الورثة، لأن الموصى له اذا أخذ أكثر من حقه، فان الورثة سيأخذون أقل من حقهم، فالنزاع ان نشأ فانه سيكون بين هذين الطرفين، وهما الموصى لهم والورثة
(فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي فَلَا ذنب عَلَيْهِ (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
❇ ❇ ❇ ❇
والمعنى فمن خاف أن يقع ظلم في الوصية، كأن يوصى الموصي بأكثر من الثلث، أو أن يوصى بالثلث كله لأحد أقاربه، والورثة كثيرون، أو يوصى مثلًا بالثلث لأحد الجهات الخيرية، والورثة فقراء
أو أن يوصى بعقار معين من الإرث لأحد الورثة
أو أن يوصى الرجل لأبناء بناته حتى يكون المال لبناته، أو يوصى الرجل أو توصى المرأة لزوج ابنته فيكون المال لإبنته، وهكذا....
فينبغي لمن حضر هذه الوصية أو علم بها أن يأمر الموصى بالعدل، ويذكره أن الظلم في الوصية من الكبائر
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ" الإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ " .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ" إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ"
رواه أبو داود والترمذي
ولذلك قال تعالى (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) لأنه سيترتب على ذلك الظلم في الوصية قطيعة رحم، سواء بين الموصى والورثة، أو بين الموصى لهم وبين الورثة، أو بين الورثة بعضهم البعض، أو أي من الأطراف، لأن طالما ان هناك ظلم فلابد أن تكون هناك أحقاد وضغائن وقطيعة
❇ ❇ ❇ ❇
وهنا نلحظ دقة التعبير القرآني، فهو تعالى قال أولًا (فَمَنْ خَافَ) والخوف يكون قبل وقوع الشيء
يقول الزمخشري في الكشاف "فمن خاف" أي فمن توقع، كانت العرب تقول: أخاف أن ترسل السماء، أتوقع أن ترسل السماء
فكأن الله تعالى يوجه الى أن يكون الإصلاح قبل وقوع الظلم، لأنه كثيرًا ما يظهر نية الرجل في الظلم في الوصية قبل أن يوصى، فاذا انتظر حتى يوصى، قد تأخذ الموصى العزة بالإثم ويرفض تغيير الوصية، واذا انتظر حتى تكتب الوصية فسيعلم الأطراف وتتعقد الأمور وتتغير النفوس
وهذا مثل قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا )
❇ ❇ ❇ ❇
في ذلك أيضًا اشارة من الله تعالى الى ان الموصى ينبغي له أن يستشير قبل كتابة وصيته، وأن يعلن وصيته قبل موته، وقبل توثيقها اذا كان سيوثقها في الشهر العقاري او أي جهة رسمية.
وذلك حتى يستقبل الرأي في هذه الوصية، وحتى يجد من يرده الى العدل اذا كان في الوصية ظلم، وحتى لا يفاجيء الورثة بها
❇ ❇ ❇ ❇
قوله تعالى (فَمَنْ خَافَ) أي أن هذا الشاهد هو الذي سيعتريه الخوف، مع أنه ليس طرفًا في الوصية، فلا هو وارث، ولا هو من الموصى لهم، بل هو مجرد شاهد
ولكن الله تعالى قال (فَمَنْ خَافَ) ليدل على أن المؤمنين وحدة واحدة، وأنهم كما قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كالجسد الواحد اذا تداعي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمي
فهذا الشاهد ليس خائفًا على نفسه ولكنه خائفًا على الورثة وخائفًا على الموصى لهم، أن يصيب أحدهم ظلم، أو تكون هناك قطيعة رحم بين أهل الوصية
❇ ❇ ❇ ❇
قوله تعالى (جَنَفًا أَوْ إِثْمًا) وقلنا أن الجنف هو الظلم جهلًا أو خطئًا، والإثم هو الظلم عمدا، فذكر الله تعالى الظلم بالجهل وبالعمد، حتى لا يقول أحد أن الموصى يعلم أنه ظالم فلا حاجة للحديث معه، ولو كان يظلم عن جهل يقول مهما تحدث اليه ونصحته فلن يفيد النصح، فالآية تؤكد على أن تؤدي ما عليك من نصح على آي حال
❇ ❇ ❇ ❇
قوله تعالى (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) المقصود به الصلح بين أي من أطراف الوصية، سواء بين الموصى والورثة، أو بين الموصى والموصى لهم، أو بين الموصى لهم وبين الورثة
❇ ❇ ❇ ❇
وقوله تعالى (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) اشارة الى أن هذا الظلم في الوصية سيؤدي الى قطيعة رحم، فكأنه يشير الى أهمية تدارك الأمر واصلاحه لأنه سيؤدي الى أمر كبير وأمر خطير وهو قطيعة الرحم
❇ ❇ ❇ ❇
وقد لا يفهم القاريء معنى قوله تعالى (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) في ضوء قوله تعالى (فَمَنْ خَافَ) لأننا قلنا أن الخوف يكون قبل وقوع الشيء، وقلنا أن معنى (فَمَنْ خَافَ) أي فمن توقع
والإصلاح يكون بين فريقين مختلفين
نقول أن المقصود هو اصلاح ذات البين قبل وقوع الاختلاف
أن الإصلاح قد يكون قبل وقوع الاختلاف أو بعده
والإصلاح قبل وقوع الخلاف أولى، لأن الخلاف اذا وقع، فلابد أن تبقي في النفوس شيء، ولو بعد الإصلاح
❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) اذا تصدي رجل للإصلاح بين الموصى لهم وبين الورثة فلابد أن يناله شيء من الإذي من أي من الأطراف، كما نقول في مثلنا العامي في مصر (ما ينوب المخلص الا تقطيع هدومه) و(يا داخل بين البصلة وقشرتها، ما ينوبك الا صنتها) وأقل شيء أنه قد أضاع وقته في الإصلاح بين الأطراف
اذن المفروض أن يكون له ثواب على هذا التصدي للإصلاح بين الأطراف، ليس الأمر مجرد (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)
نقول: هذا ما نقول عليه في أصول الفقه، مفهوم المخالفة، يعنى من يترك هذا الأمر، وهو اسداء النصيحة للموصى، فعليه إِثْمَ
ولذلك قال العلماء أن من علم وصية فيها ظلمًا فان تغييرها فرض كفاية
من علم وصية فيها ظلمًا فان تغييرها فرض كفاية
❇ ❇ ❇ ❇
وأيضًا لأن في الإية السابقة، هدد الله تعالى وتوعد من يغير الوصية، فقال تعالى (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
فيطمئن الله تعالى، بقوله تعالى (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) من يجد ظلمًا في الوصية، أن الوعيد في الآية السابقة من يبدل الوصية لهوي في نفسه، ومن يبدلها من عدل الى ظلم، أما من يبدلها من ظلم الى عدل فلا اثم عليه
❇ ❇ ❇ ❇
أيضًا قوله تعالى (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) اشارة الى أن أي مسئول في الوصية، اذا وجد في الوصية ظلمًا سواء عن طريق الخطأ أو العمد، فله أن يغير في الوصية وأن يردها الى الوجه المشروع
وأيضًا ولى الأمر أو القاضى اذا رفعت اليه قضية، وكان هناك ظلم في الوصية، فعليه أن يغير الوصية، و يردها الى العدل والحق
على ولى الأمر ان يغير الوصية و يردها الى العدل والحق
❇ ❇ ❇ ❇
ثم ختم الآية الكريمة بقوله (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
أي أن هذا الموصى الذي أقدم على الجنف والإثم والظلم، متى أخذ بالنصيحة وعمل بها وأصلح وصيته، فأن الله غفور رحيم، سيغفر له ويرحمه
❇ ❇ ❇ ❇
اذن معنى الآية أن الذي يحضر وصية أو يعلم بها، ويجد فيها ظلمًا سواء عن طريق الخطأ أو العمد، فيجب عليه أن ينصح الموصى، فينهاه عن الظلم، ويرشده الى العدل
واذا علم أو حتى شعر بنية الموصى في الظلم في الوصية فعليه أن يبادر الى نصحه قبل حتى أن يوصى
وتشير الآية بوضوح الى أن هذا الإصلاح ليس نافلة، بل هو واجب وفرض، ولذلك قال تعالى (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي ان الذي لا ينهض بها الأمر يلحقه الإثم
❇ ❇ ❇ ❇
أسأل الله تعالى وقد اجتمعنا على طاعته أن يظلنا تحت ظل عرشه يوم القيامة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
|