تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة التاسعة بعد المائة
تدبر الآية (184) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تحدثنا في اللقاء السابق عن قول الله تعالى في الآية (183) من سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
وقلنا أن الله تعالى قد أخبرنا في هذه الآية الكريمة أن الصِّيَامُ كما فرض علينا فقد فرض على جميع المؤمنين من الأمم السابقة، وقلنا أن الله تعالى قد أخبرنا بذلك لتسهيل عبادة الصِّيَامُ على نفوس المسلمين، لأن العرب لم تكن تعرف الصوم، والصوم عبادة شاقة، والأمر الشاق اذا علم الإنسان أن غيره قد أداها قبله، أو اشترك معه فيها فان المشقة تخف في نفسه
ثم أخبر تعالى أن الهدف من الصِّيَامُ ليس تعذيب النفس كما في الملل الوثنية، وانما حتى نصل الى درجة التقوي
وقلنا أن الصِّيَامُ يصل بنا الى درجة التقوي عن طريقين:
الأول: أن الصائم يترك شهواته المباحة امتثالًا لأمر الله تعالى، فيكون سهلًا بعد ذلك أن يترك الشهوات المحرمة
والثاني: أن الصوم سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه أحد الا الله، فتتربي عند المسلم ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى بعد ذلك (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
وهذه الآية الكريمة لها تفسيرين: التفسير الأول:
(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) هي أيام شهر رمضان المبارك، ومعنى (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) أي أَيَّامًا قليلة لأن الأيام القليلة هي التى تستطيع أن تعدها، وتستطيع أن تحصيها، كما قال تعالى في سورة يوسف (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي باعوه بدراهم قليلة لأنها دراهم قابلة للعد
ولذلك قد تسأل أحدهم مثلًا: كم واحد وصل ؟ فيرد عليك قائلًا: لا ما تعدش، ما دامت لا تعد فهي كثيرة، أما أذا كانت تعد فهي قليلة
اذن (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) أي أَيَّامًا قليلة، وهذا تطمين للسامع الذي يتلقي الحكم بالصيام أن هذا الصيام أيامًا قليلة
لأننا نصوم شهرًا واحدًا ونفطر أحد عشر شهرًا، فكأنك تصوم يومًا وتفطر في مقابله أحد عشر يومًا
وأيضًا أيام صيام شهر رمضان أيامًا قليلة، لأنك لو قارنت أيام شهر رمضان بما كانوا يصومونه تطوعًا قبل فرض صيام رمضان، وهو يوم عاشرواء وثلاثة أيام من كل شهر، لوجدت أن صيام رمضان أقل، لأنهم كانوا يصومون سبعة وثلاثون يومًا في السنة، وشهر رمضان تسعة وعشرون أو ثلاثون يومًا في السنة
فان فمعنى (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) أننا فرضنا عليكم صِّيَامُ أَيَّامًا قليلة، فهي قليلة بالمقارنة بالأيام التى تفطرونها في العام، وهي أقل بالمقارنة بما كنتم تصومون من قبل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا) المقصود بالمرض هنا، هو المرض الذي يشعر المكلف معه أنه لا يستطيع الصوم، أو لأنه يحتاج الى أدوية في خلال النهار، أو الطبيب المسلم الحاذق يقول له أن الصيام سيضره أو يؤخر شفاءه
(أَوْ عَلَى سَفَرٍ) ومسافة السفر التى تبيح الفطر هي ثمانين كيلو متر
والثابت عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أفطر في السفر وصام في السفر أيضًا، وكان الصحابة يسافرون مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان البعض يصوم والبعض يفطر
روى الشيخان عن أنس بن مالك قال : كنا نسافر مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي يصوم بدل الأيام التي أفطرها أياما آخري مساوية لها في العدد .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الشيخ الشعراوي في تفسيره لهذه الآية ينكر على من يتمسك بالصوم في رمضان وهو مريض أو على سفر، بحجة أنهم لا يريدون أن يحرمون أنفسهم من تجليات رمضان، فيقول رحمه الله: من وهب التجلي في رمضان، ونقله الى عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، ليس عاجزًا أن يهب التجلي في الأيام الأخر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)
(يُطِيقُونَهُ) أي يقدرون على الصوم ولكن بمشقة وتعب، لأن الطاقة هو مقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة، وهي من الطوق الذي يحيط بالشيء، ولذلك هناك قراءة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ)
فالعرب لم تكن تقول –مثلًا- فلان أطاق حمل ريشة أو ورقة، ولكن تقول: فلان يطيق حمل قنطارين، أي أن هذا هو أقصى ما يمكن أن يتحمله، ولا يمكن أن يحمل أكثر منه، واذا كان هذا هو أقصى ما يمكن أن يحمله، فلابد أنه يحمله بتعب ومشقة شديدة
اذن فمعنى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي: وَعَلَى الَّذِينَ يستطيعون الصوم ولكن بتعب ومشقة شديدين، سواء كان شيخًا كبيرًا أو المريض مرضًا مزمنًا أو غير ذلك
(فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) أي يرخص له أن يفطر، ولكن عليه أن يطعم عن كل يوم أفطره مسكينًا، ، سواء كان هذا الإطعام وجبة كاملة، أو نصف صاع من طعام، أي كيلو جرام ونصف من الأرز أو التمر او غير ذلك من طعام أهل البلد
كما فعل "أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ" وكان قد تقدم في السن حتى عمر فوق المائة عام، فكان يصنع جفنة من ثريد ويدعو ثلاثين مسكينا
روي البخاري عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فعليها أن يطعما مكان كل يوم مسكيناً .
وهناك رأي أن الآية تشمل كذلك الحامل والمرضع ان خافت على نفسها أو ولدها، فيمكنها أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا ولا تقضى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
المعنى الثاني للأية الكريمة
(الأيام المَعْدُودَاتٍ) هي يوم عاشوراء والثلاثة البيض من كل شهر
فالآية الكريمة على هذا التفسير تتحدث عن مرحلة الصيام تطوعًا قبل فرض صيام رمضان، وهي مرحلة صيام يوم عاشوراء والثلاثة البيض، وهي أيام: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر قمري تطوعًا
لأن الصيام –كما قلنا- من العبادات التى فرضت بالتدرج، فطوال فترة الدعوة المكية، وهي ثلاثة عشر عامًا، وحتى السنة الثانية من الهجرة، كان الصيام تطوعًا، فكان المسلمون يصومون تطوعًا يوم عاشوراء، والثلاثة أيام البيض من كل شهر
فقوله تعالى ء على ذلك التفسير هو هذه الأيام وهي يوم عاشوراء والثلاثة البيض، فهي أيام قليلة، لأنها ثلاثة أيام والشهر ثلاثون يومًا أو تسعة وعشرون يومًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) وقد تقدم تفسيره (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي يصوم بدل الأيام التى أفطرها بسبب المرض أو السفر أياما آخري مساوية لها في العدد، وذلك أيضًا على سبيل التطوع.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) يُطِيقُونَهُ على هذا التفسير أي يدخل في طاقتهم وقدرتهم، أي يستطيعون الصوم، فهؤلاء الذين يستطيعون الصوم ان شاءوا صاموا عاشوراء والثلاثة البيض وان شاءوا أفطروا، ولكن من يفطر فعليه (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) أي أن يطعم عن كل يوم أفطره مسكين
في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين) كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها .
وهذا الحكم –كما ذكرنا- كان في بداية تشريع الصيام، ثم نُسِّخ هذا الحكم في الآية التالية، فقال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ تَعْلَمُونَ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فأوجب الله تعالى علينا الصيام في رمضان
(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) أي أطعم مسكينين أو ثلاثة أو أكثر (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) فهو أفضل له من اطعام مسكينًا واحدًا
(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: من لم يكن مريضًا، ولم يكن على سفر، ويستطيع الصيام، فالصيام أفضل له من أن يفطر ويطعم المسكين، لأن المسلمين في مرحلة الإعداد للصيام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن فالآية الكريمة لها معنين: معنى محكم، ومعنى آخر منسوخ بالآية التالية لها
المعنى المحكم أن الأيام المعدودات هي أيام شهر رمضان، فالشيخ الكبير والمرأة الكبيرة والمريض مرضًا مزمنًا، والذي يرهقهم الصيام جدًا، ولا يستطيعون الصيام الا بتعب ومشقة شديدين، فلهم أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكينًا
أما المعنى المنسوخ فقد كان في بداية تشريع الصيام أنه كان تطوعًا في يوم عاشوراء والثلاثة البيض من كل شهر، فمن كان صحيحًا مقيمًا قادرًا على الصوم، فله أن يصوم وله أن يفطر، ولكن اذا أفطر فعليه أن يطعم عن كل يوم أفطره مسكينًا، وهذا المعنى نسخته الآية التالية عليه (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فأوجب الله تعالى عليهم الصيام في رمضان بعد أن كان تطوعًا في عاشوراء والثلاثة البيض
ملاحظة: هناك خلاف قديم بين العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أم محكمة، فنقول أن القرآن حمال أوجه، فكل آية في القرآن العظيم يمكن أن يكون لها تفسيرين وأكثر، وهذه الآية لها معنين –كما قدمنا- معنى منسوخ ومعنى آخر محكم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وملخص أحكام الصيام في الآية، أن الصحيح المقيم يجب عليه الصيام، والمريض والمسافر (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي يصوم بدل الأيام التي أفطرها أياما آخري مساوية لها في العدد، والشيخ الكبير والمرأة الكبيرة والمريض مرضًا مزمنًا، يطعم عن كل يوم يفطره مسكينًا
|