تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثالثة عشر بعد المائة
تدبر الآية (188) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)
أكل المال، هو أخذ المال بغير وجه حق
فالآية نهي عن الاعتداء على أموال الغير، سواء عن طريق الغصب أو السرقة أو التحايل أو الغش أو الخيانة أو جحد الحقوق، أو غير ذلك
يدخل فيها الآن –ولا شك- جميع حالات الغش التجاري
ويدخل فيها جميع أنواع التحايل التسويقية التى نراها في وسائل الاعلام أو على الانترنت
يدخل فيها الاعلانات التى تنقل معلومات غير حقيقية
من الصور الشائعة أنك تري صاحب شقة أو سمسار يخفي معلومات عن العقار الذي يبيعه
أو واحد يبيع سيارة فيها عيوب، وهو يعلم هذه العيوب، ويخفيها على المشتري، ويستغل عدم معرفته أو خبرته بالسيارات
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وجاء –تعالى- بالتعبير (أَمْوَالَكُمْ) للإشارة الى أن المسلمين وحدة واحدة، كما قال تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فأنت اذا أكلت مال اخيك المسلم، فكأنك أكلت مالك
واذا اعتديت اليوم على مال أحد، فسيأتي غدًا من يعتدي على مالك
والتشريع في صالحك أنت، لأني منعتك من الاعتداء على أموال الآخرين، ومنعت المجتمع كله من الاعتداء على مالك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى بعد ذلك (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)
و(الْحُكَّامِ) جمع حاكم، وهو الذي يحكم في القضية ويفصل بين المتخاصمين، كالقاضى مثلًا
والمعنى أنه بعد السرقة أو الغصب أو التحايل أو الخيانة أو جحد الحق، تقدمون الأموال الى القاضى على سبيل الرشوة
كلمة (َتُدْلُوا) مأخوذة من ادلاء الدلو في البئر للإستسقاء
وهنا دقة التعبير القرآني أنه عبر تقديم المال الى القاضى على سبيل الرشوة بادلاء الدلو، لأن الذي يدلى دلوه في البئر يفعل ذلك ليصل الى الماء البعيد عنه، وكذلك الذي يقدم الرشوة الى الحاكم يدفع المال ليأخذ شيئًا بعيدًا عنه لأنه مال ليس من حقه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ)
جاء مرة أخري بتعبير (لِتَأْكُلُوا) وهو –كما قلنا- أخذ المال بغير وجه حق
(فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ) وهم الذين لا يقدمون الرشوة
(بِالْإِثْمِ) أي بغير وجه حق
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) هنا تبشيع للذنب، يعنى أنتم تعلمون أنه ذنب ومع ذلك ترتكبونه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والآية تتعرض لقضية هامة جدًا وهي قضية الرشوة
لأن الرشوة تدمر المجتمع بالكامل، وتهدم صرح العدل من أساسه، وتحول مجالس القضاء من موطنًا للعدل الى موطنًا للظلم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد لعن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس الراشي والمرتشي فقط، ولكنه لعن أيضًا "الرائش" والذي يتوسط بين الراشي والمرتشي، لأنه غالبًا تكون هناك واسطة بين الراشي والمرتشي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وفي الصحيحين أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ عَلَى صَدَقَةٍ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ -أي بياض إبطيه-: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ثلاثا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قصة موظف كان يأخذ الرشوة في عمله، وكان لا يسحب مرتبه الشهري من ماكينة الصرف الآلى أبدًا، بل كان يعتمد بالكامل في حياته على الرشوة، وخلال العطلة الصيفية نفذ ماله، فصرف بعض المال من ماكينة الصراف الآلى واشتري بها طعامًا، فلما تذوقت ابنته الطعام، قالت له: أبي أنا لم آكل في حياتي طعامًا ألذ من طعام اليوم ! فبكي الرجل وقال هذه رسالة من الله تعالى أرسلها له على لسان ابنته الصغيرة، لأن هذه هي أول مرة يطعم فيها ابنته من المال الحلال، فتاب الرجل وقال: يا ابنتى لن أطعمك الا طعامًا شهيًا ولذيذًا بعد اليوم
|