تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السابعة عشر بعد المائة
تدبر الآية (197) من سورة البقرة
********
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴿١٩٧﴾
*****
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) يعنى وقت الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ، وهي أَشْهُرٌ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ
في تفسير "ابن العربي" وهو من أهل السنة الصوفية يقول: وقت الحج أزمنة معلومة، وهو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين.
عندما تحدث الله تعالى عن الصيام قال (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فذكر الله تعالى اسم الشهر الذي يجب صيامه، لأن صيام رمضان لم يكن معروفًا عند العرب
أما الحج فقد كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام، وقد قلنا أن الحج عند العرب كان من بقايا ديانة ابراهيم –عليه السلام- ولكن العرب أدخلوا عليه كثير من الباطيل، حتى جاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"
ولكن أشهر الحج من الأمور التى لم تتعرض لتحريف العرب، فظلت أشهر الحج منذ ابراهيم –عليه السلام- حتى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما هي وهي أشهر: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ
ولذلك قال الله تعالى في هذه الآية (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) يعنى أشهر الحج في الاسلام هي نفس الأشهر التى أنتم عليها، وهي معلومة لكم وهي أشهر: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، فهذه الشهور هي الشهور التى يجوز الاحرام بالحج فيها، ولا يجوز الاحرام بالحج الا في هذه الشهور فقط
فيمكن للمسلم أن يحرم بالحج من أول ليلة في شوال حتى قبل فجر يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، لأنه لو أحرم بعد فجر يوم النحر يكون قد فاته الوقوف بعرفة، فلا يجوز له الحج
********
وَلكن هناك اختلاف للعلماء في أشهر الحج، فَقَالَ الامام مَالِكٌ: إِنَّهَا تلك الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: إِنَّهَا شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
وأهمية هذا الاختلاف في موعد طواف الافاضة
فمن قال أن أشهر الحج هي: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، يجب أن يكون طواف الافاضة في يوم النحر، وهو يوم العيد، العاشر من ذي الحجة، ومن أخره عن هذا اليوم يجب عليه دم
ومن قال أن أشهر الحج هي الأشهر الثلاثة من أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، يعنى شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وكل ذِي الْحِجَّةِ، فيمكنه أن يؤخر طواف الافاضة الى آخر يوم من ذي الحجة، دون أن يكون عليه شيء، لأن ذِي الْحِجَّةِ من أشهر الحج، أما من أخره عن ذي الحجة فعليه دم
وعليه دماً، يعني ذبيحة يذبحها في مكة وتتوزع بين الفقراء سواء ذبحها بنفسه أو وكل من يذبحها في مكة
والبعض يحب أن يؤجل طواف الافاضة هربًا من الزحام، الى آخر ذي الحجة، وهناك من يؤخره الى قبيل مغادرته مكة حتى يجمع طواف الافاضة مع طواف الوداع
********
ما معنى هذا الكلام ؟
اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم النحر (يوم العيد) أطلق عليه القرآن العظيم في سورة التوبة (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) لأن أكثر أعمال الحج فيه، وهي رمي الجمرات (جمرة العقبة)، ثم ذبح الهدي، الحلق أو التقصير، الطواف (طواف الافاضة)، السعي
هذا الترتيب اذا قدم فيه أحد أو أخر فلا حرج، لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان اذا سأل عمن قدم أو أخر فكان يقول "لا حرج لا حرج"
اذن السنة هم أنك بعد رمي الجمرات في اليوم العاشر من ذي الحجة، تذهب الى مكة مباشرة في نفس اليوم للحلق والطواف والسعي، وهذا الذي يطلق عليه العلماء "وقت الفضيلة"
ولكن قد قلنا أن عدد الحجاج العام الماضى (عام 2017) وصل الى 2 مليون و350 ألف، وهو يزيد بفضل الله تعالى، فاذا ذهب كل هذا العدد لطواف الافاضة في نفس اليوم لكان فيه صعوبة ومشقة وحرج، وقد قال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
لذلك فالذي يؤخر طواف الافاضة نتيجة هذا الزحام الشديد، خاصة اذا كان مريضًا أو مرهقًا أو أمرأة تخشي الزحام، فلا حرج عليه
ولكن اذا كان رجل يجد في نفسه القوة، ويستطيع الطواف في السطح مثلًا أو الدور الأول دون أن يزام أحد، فليفعل
كذلك المرأة ان أمنت على نفسها من الزحام عليها أن تبادر الى الطواف، خوفًا من أن تفاجئها الدورة الشهرية، لأن بعض النساء تأتيها الدورة في غير موعدها نتيجة الارهاق والمشي الكثير
واذا أجل طواف الافاضة فالطواف في اليوم الحادي عشر أفضل من الثاني عشر والثاني عشر أفضل من الثالث عشر وهكذا المهم أن يكون في شهر ذي الحجة
والذي يؤجله حتى يخرج ذي الحجة فعليه دم بالإجماع
والذي يجمع بين طواف الافاضة والوداع فهو جائز، ولكن الأكمل أن تطوف طواف الافاضة، ثم اذا أردت السفر من مكة ان تطوف للوداع، وهكذا فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
********
(فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)
فَرَضَ في اللغة أي أوجب والزم
والمعنى أن من أحرم بالحج فقد أصبح الحج عليه في هذا الموسم فرضًا، لا يجوز أن يؤجله الى العام التالى
وحتى لو كان الحج سنة، يعنى كان قد حج حج الفريضة، فقد أصبح هذا الحج فريضة
وهذا كما قلنا في الآية السابقة في قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) طالما أحرمت بالحج فلا يجوز أن تتحلل من احرامك قبل أن تستكمل المناسك
وذلك مثل النذر، فالذي أدي زكاة ماله فلا شيء عليه، أما اذا نذر نذرًا فقد أصبح فرضًا مثله مثل الزكاة
********
(فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) يعنى بمجرد أن تنوي الحج، وطن نفسك على هذه الأمور، واستعد لهذه الأمور الثلاثة
(فَلَا رَفَثَ) هو الجماع أو مقدمات الجماع أو حتى الكلام عن الجماع
(وَلَا فُسُوقَ) هو الخروج عن طاعة الله تعالى بالمعاصي، والمعاصى منهي عنها في كل وقت، ولكنها لمن أحرم بالحج أوجب، لأن السيئة في الحرم عظيمة وشديدة، وكما ان الحسنات فيه مضاعفة فالسيئة مضاعفة
والحرم المكي هو المكان الوحيد الذي يُحاسب فيه على مجرد الإرادة.
يقول تعالى في سورة الحج (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (والإلحاد هو كل ميل عن الحق
فإذا كان من همَّ بالإلحاد في الحرم يكون له عذاب أليم، فكيف بحال من فعل الإلحاد في الحرم؟
لدرجة أن بعض الصحابة والتابعين كانوا لا يفضلون الاقامة في مكة خوفًا من مضاعفة السيئات فيها، يقول ابن عباس (مالي ولبلد تضاعف فيه السيئات كما تُضاعف الحسنات( وكان "عبد الله بن عمرو بن العاص" اذا نزل مكة فان يجعل بيته خارج الحرم ويذهب للصلاة في الحرم
فاياك اذا أحرمت واذا دخلت الى مكة أن تنظر الى ما حرم الله، اياك أن تسب ابنك، اياك أن تغتاب مع زوجتك أو رفقة السفر، اياك أن تفقد أعصابك في الاسواق أو مشرف الرحلة
********
(وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
الجدال كذلك من الأمور المنهي عنها في جميع الأحوال
روي أبو داود في سننه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال "أَنا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِراءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقّاً"
زَعِيمٌ: ضامن (وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)
المِراءَ: هو الجدال، من قولهم: مريت الشاة، إذا استخرجت لبنها، لأن الجدال يستخرج الغضب
اذن الجدال من الأمور المنهي عنها في جميع الأحوال، ولكن الله تعالى نهي عن الجدال في الحج أوكد
لأن مناسك الحج من الأمور التى فيها آراء كثير من الفقهاء، وهذا من تيسير الله علينا
هناك حديث (اختلاف أمتي رحمة( وهذا حديث غير صحيح، ولكن بعض التابعين قال: اختلاف أصحاب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والحقيقة أن الاختلاف بين العلماء في غالب الأحوال يحدث البلبلة والتشويش، ولكن أحيانًا يكون الاختلاف رحمة، وذلك حتى يستوعب الحكم جميع الظروف
ومناسك الحج من الأمور التى فيها الكثير والكثير من اراء العلماء، واختلاف العلماء في المناسك فيه الكثير والكثير من الرحمة، لأنه يمكن أن تأخذ بأي من هذه الآراء دون أن يكون عليك شيء، لأن كل له ظروفه الخاصة
ولكن المشكلة أن البعض يأخذ هذه الآراء مرتعًا للجدال، وكل واحد سمع رأيًا فانه يتمسك به، وهو لا يعلم أن هناك رأيًا آخر يمكن أن يؤخذ به، ويدافع عنه كما لو كان هو العالم الذي استنبطه
لدرجة أنه حتى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جودل في الحج عندما أمر النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو فِي حجة الوداع من ليس معه هدي أن يؤدي مناسك العمرة ويتحلل ثم يحرم بعد ذلك بالحج في يوم التروية، يعنى حج متعة، فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ يعنى فقال: افعلوا ما أمرتكم
ولأن الله تعالى يعلم بعلمه المسبق أن مناسك الحج فيها كثير من الآراء، نهي الله تعالى عن الجدال في الحج، لأن هذا الجدال يغير النفوس، ويعكر الدم، ويشوش الفكر، وبذلك يفرغ رحلة الحج نفسها من مضمونها
********
أما الجدال إذا كان لإثبات الحق، أو لإبطال الباطل فإنه واجب
يعنى مثلًا وأنا في رحلة الحج، كان هناك رجل متمسك ويدعو كل الناس الى رمي الجمار في وقت الزوال، وأنا أعلم أن كل عام هناك عدد من الحجاج يموتون بسبب الزحام لأن البعض يتمسك بأن يرمي في وقت الزوال -كما فعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
طبعا لو تركت هذا الرجل يتحدث هكذا لتسبب في وفاة بعض الحجاج، فلابد أن أقف وأجادله وأقول أنه يجوز الرمي في اخر الليل، ثم الوقت ممتد حتى فجر اليوم التالى
ولو كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيًا يقينًا كان قد أمر بذلك
********
(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ)
بعد أن نهانا الحق عن ارتكاب معاصى بعينها في الحج فقال تعالى ) فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج) أمرنا تعالى أن نملأ أواقتنا في الحج بأعمال الخير، فقال تعالى (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ)
كما قال على بن أبي طالب "نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية"
********
وقلنا من قبل أن حرف (مِنْ) في قوله تعالى (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) يعنى من بداية ما يقال له خير
وضربنا مثلًا: لو سألك أحدهم فقال: هل معك مال ؟ فلو قلت له لا ليس معي مال، فقد يحتمل أن معك مال ولكن لا يعتد بها، ولكن لو قلت: ما معي من مال، يعنى ليس معي من أول ما يقال له مال
اذن قوله تعالى (مِنْ خَيْرٍ) أي من بداية ما يقال له خير
********
لماذا قال تعالى أنه يعلم ما نقوم به من أعمال الخير، بالرغم من أن أعمال الخير معلومة لكل الناس
لأن كثير من الخيرات تكون هواجس نية، وهواجس النية لا يعلمها الا الله تعالى
يعنى مثلًا انسان ناجح في عمله، طبيب مثلًا ويخدم الاسلام من خلال علمه، يقول في نفسه: كنت أتمنى أن أكون داعية أدعو الناس الى الاسلام في أفريقيا وأمريكا اللاتينية
رجل فقير يقول لو عندي أموال ما كنت تركت فقيرًا واحدًا في بلدتي
كل هذه هواجس نية، ولا يعلمها الا الله تعالى، وهو تعالى الذي سيجازي عليها
********
قوله تعالى (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ) يعنى وسيجازي عليها، كما لو كان هناك رأيسًا في العمل، وعنده موظف مجتهد، فيقول له، أنا أعلم كل ما تقوم به
يعنى حأجازيك على عملك، وسأكتب عليك تقريرًا جيدًا آخر العام
********
قوله تعالى (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ) توجيه من الله تعالى الى الاكثار من أعمال الخير في وقت الحج والعمرة، أي اغتنم الفرصة السانحة، ولاتضيع لحظة واحدة وأنت في رحلة حج أو عمرة
********
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ)
الزاد هو طعام المسافر، والزاد مأخوذ من الزيادة، لأن من يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلاك إقامته
وسبب نزول الآية أنه كَانَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، يَخْرُجُونَ بِغَيْرِ زَادٍ إِلَى مَكَّةَ، ويقولون "نحن ضيوف الله ألا يُطْعِمُنَا ؟" فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت هذه الآية، قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تزودوا ما تكفون به وُجُوهَكُمْ عَنِ النَّاسِ
ونحن نري الى الآن البعض يخرج الى الحج، ويتعرض الى الناس بالسؤال، وهذه الآية تقول لا تخرج الى الحج وأنت لا تملك الزاد، لأن الحج عبادة للمستطيع فقط
وقيمة الحج هي ذل العبودية لله تعالى، والذي يمد يده الى الناس فهو يذل نفسه لعبد مثله، والذلة يريدها الله تعالى خالصة له وحده
********
التقى إبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي بمكة فقال إبراهيم لشقيق: ما بدو أمرك الذي بلغك هذا؟
فقال: سرت في بعض الفلوات فرأيت طيرا مكسور الجناحين في فلاة من الأرض فقلت: انظر من أن يرزق فقعدت بحذائه فإذا أنا بطير قد أقبل في منقاره جرادة فوضعها في منقار الطير المكسور الجناحين فقلت في نفسي: يا نفس، الذي قيض هذا الطائر الصحيح لهذا الطائر المكسور الجناحين في فلاة من الأرض هو قادر أن يرزقني حيث ما كنت فتركت التكسب واشتغلت بالعبادة.
فقال له إبراهيم: يا شقيق ولم لا تكون أنت الطير الصحيح الذي أطعم العليل حتى يكون أفضل منه أما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم: اليد العليا خير من اليد السفلى، ومن علامة المؤمن أن يطلب أعلا الدرجتين في أموره كلها حتى يبلغ منازل الأبرار.
قال: فأخذ يد إبراهيم وقبلها وقال له: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق.
رواه ابن عساكر في “تاريخ دمشق”
********
(فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ)
بعد أن أمر الله تعالى بالتزود للحج، وعدم الخروج بلا زاد، حتى لا يذل أحد نفسه بالسؤال لعبد مثله، وتكون العبودية لله خالصة له فقط
يأخذ الله تعالى هذا التزود في رحلة الحج مثلًا للتزود للرحلة الى الحياة الآخرة، فيقول تعالى (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ)
وهكذا ينقلنا الله تعالى من الأمور الحسية الى الأمور المعنوية
فكما أن التزود في الدنيا ضروري لاستبقاء الحياة الفانية، فكذلك التزود للآخرة ضروري لاستبقاء الحياة الباقية الخالدة في الآخرة
********
(وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)
"التقوى" هي اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ هذا أجمع ما قيل في التقوى.
(يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) يعنى يا أهل اللُّبِّ والعقل
والمعنى واتقي الله في تزودك لا تتزود بمال حرام، ولذلك قال (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) يعنى لو عندك ذرة عقل لن تقبل أن تخرج للحج بمال حرام
********
هناك قصة رمزية عن التزود للآخرة
قيل أن ملكًا استدعي ثلاثة من مساعديه، وأعطي كل واحدمنهم كيسًا، وأمرهم أن يخرجوا الى بستان القصر، وأن يملأ الكيس للملك بمختلف أنواع الثمار والزوع
فخرج الثلاثة وكان البستان مليئًا بأطيب أنواع الثمار
فأما الأول بملأ الكيس على آخره بأفضل وأجود أنواع الثمار
وأما الثاني فكان يجمع الثمار دون أن يتفحص الطيب من الفاسد، وبتكاسل، فملأ نصف الكيس كيف ما اتفق
أما الثالث فملأ الكيس بالحشائش والأعشاب وأوراق الشجر
اجتمع المساعدون عند الملك، فأمر رئيس الجند أن يضع المساعدين الثلاثة في السجن، كل بمفرده، لمدة شهر كامل، وكل واحد يأخذ معه الكيس الذي جمعه، ولا يتم ادخال أي طعام لهم
فأما المساعد الأول، فقد ظل يأكل من أطايب الثمار التى جمعها، وخرج بعد الشهر بصحة جيدة
الثاني عاش هذا الشهر في ضيق وضنك، معتمدًا فقط على الثمار القليلة الصالحة التى جمعها
الثالث أخذ يأكل الحشائش وأوارق الشجر حتى مات جوعًا
ولله المثل الأعلى: مساعد الملك هو أنت
والبستان هوالدنيا
والسجن هو قبرك
نحن الآن في بستان الدنيا، لنا الحرية المطلقة أن نجمع من ثمارها، وهي الأعمال الصالحة
وعندما يأمر ملك الملوك بأن ندخل في قبورنا، كل منا سيكون بمفرده، وليس معه الا أعماله الطيبة التى جمعها في الدنيا
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)
*****
|