تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثامنة عشر بعد المائة
تدبر الآيتين (198) و (199) من سورة البقرة
********
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّـهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴿١٩٨﴾
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١٩٩﴾
********
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّـهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴿١٩٨﴾
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)
أصل "الجُنَاحٌ" من: جنح الشيء أي "مال" يقال: جنحت السفينة اذا مالت الى أحد جانبيها.
ويقال (جُنَاحٌ) أي الاثم أو الذنب، لأن الاثم أو الذنب يميل بالإنسان عن الحق الى الباطل
فمعنى قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) أي ليس عليكم اثم ولا ذنب ولا حرج
(أَن تَبْتَغُوا) الابتغاء هو الطلب
(فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ) الفضل هو الزيادة، والمقصود به هنا التجارة
فمعنى قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ) أي لا اثم عليكم ولا ذنب ولا حرج في أن تطلبوا رزقًا حلالًا عن طريق التجارة أو غير ذلك من الأعمال في موسم الحج
وسبب الآية أن البعض كان يتحرج من البيع والشراء وهو محرم، وكان البعض لا يبيع ولا يشتري في العشر الأوائل من ذي الحجة، حَتَّى كَانُوا يَقْفِلُونَ حَوَانِيتَهُمْ في تلك الآيام، فنزلت هذه الآية لتخبرهم أنه لا حرج عليهم في ذلك
سأل ابن عمر عن الرجل يحج ومعه تجارة، فقرأ ابن عمر: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ)
ولو كان الله تعالى قد منع ذلك، فمن الذي سيقوم بأمر الحجيج؟ومن الذي سيبيع لهم الأطعمة والأشربة وغير ذلك ؟
ولكن لا شك أن الحج بدون تجارة أفضل، والذي يحج ويتجر ينبغي ألا تشغله تجارته عن أداء المناسك، والذي يذهب للحج ينبغي ألا تشغله الأسواق عن أداء المناسك
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ)
********
(فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ)
(أَفَضْتُم) أفاض الماء يعنى كثر وسال من حافتى الوادي او من الاناء، -ومنه فيضان النيل قديمًا- ونقول "أفاض في الحديث" يعنى تحدث كثيرًا، ونقول "رجل فياض" أي كريم ومندفع في العطاء، فأصل الكلمة: الدفع بشيء بكثرة حتى يتفرق
يقول تعالى (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ) يعنى فَإِذَا خرجتم من عرفات الى المزدلفة
وشبه الله تعالى خروجهم بكثرة وتزاحم، وهذا هو المشهد الذي يحدث بالفعل كل عام
و(عَرَفَاتٍ) اسم للجبل المعروف هناك، وسمي بذلك لأن الناس يجتمعون ويتعارفون في ذلك اليوم، وقيل لأن أدم عندما أهبط من الجنة الى الأرض نزل بالهند، ونزلت حواء بنجد، فلما جاء موسم الحج انطلقا للحج، فالتقيا هناك وتعارفا، فسمي ذلك الموضع عرفات، وقيل لأن الله تعالى بعث جبريل فحج بابراهيم، فلما أتي عرفة قال له "قد عرفت" ؟ فقال ابراهيم: نعم. فسمي هذا الموضع "عرفات"
وَذَكَرُوا وُجُوهًا أخري لِلتَّسْمِيَةِ، وقد يكون اسم مرتجل، ولكن أعجبنى وقل أحدهم أن سبب التسمبة بعرفات لأنه مكان يَتَعَرَّفُ فِيهِ النَّاسُ إِلَى رَبِّهِمْ بِالْعِبَادَةِ، كأن هناك علاقة جديدة تولد بين العبد وربه في هذا اليوم
********
والوقوف بعرفة من أركان الحج، ومعنى ركن الحج يعنى لا يصح الحج بدونه، وأركان الحج أربعة: الاحرام، وهي نية بدء المناسك، والوقوف بعرفة، وطواف الافاضة، والسعي بين الصفا والمروة
وهناك واجبات، يعنى اذا تركتها يكون عليك دم، أي تذبح ذبيحة في مكة وتوزع على الفقراء، وهي سبعة على قول اكثر أهل العلم، وهي:
1. أن يكون الاحرام من الميقات
2. الوقوف في عرفة حتى غروب الشمس
3. المبيت بمزدلقة
4. رمي الجمار
5. المبيت بمنى أيام التشريق
6. الحلق أو التقصير
7. طواف الوداع
وهناك سنن، وهي كثيرة، مثل المبيت في منى يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، فمن فعلها يثاب عليها، ومن تركها فلا شيء عليها
(فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ)
********
اذن اتفق العلماء على أن الوقوف بعرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة من أركان الحج، ويطلق عليه "ركن الحج الأكبر" لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول "الحج عرفة"
ووقت الوقوف بعرفة، هو اليوم التاسع من ذي الحجة، ما بين الزوال إلى طلوع الفجر من ليلة النحر
واذا وقف بالليل فحجه صحيح، المهم الا يطلع فجر يوم النحر، وهو اليوم التالى العاشر من ذي الحجة، الا وقد وقف بعرفات
وجمهور العلماء على أن تمام الحج يكون بالوقوف بعرفة بعد الزوال ثم الافاضة منه قبل الليل
********
(فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّـهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)
(الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) كلمة مَشْعَرِ من الشعار وهو العلامة، فسمي هذا المكان بالْمَشْعَرِ لِأَنَّهُ علامة لِلْعِبَادَةِ
ووصف بالْحَرَامِ لأنه مكان له حرمة وتقديس
و(الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) هو المزدلفة، من "الازدلاف" وهو القرب، لأن الناس يقتربون فيها من "منى" وقيل لأن لآدم اقترب فيه من حواء
ويطلق عليها أيضًا "جَمْع" لاجتماع الناس فيها، أو لأن آدم اجتمع فيه مع حواء
والمعنى: اذا سرتم أيها الحجاج من عرفات ووصلتم الى المزدلفة، وهو المشعر الحرام، فأكثروا من ذكر الله تعالى هناك بالتلبية والتهليل والاستفغار والدعاء وسائر أنواع الذكر
وهذا من الأمور الهامة التى يغفل عنها كثير من الناس
فعند الخروج من عرفات يكون الزحام شديدًا، وتحدث مشاحنات ومشاجرات كثيرة جدًا بين سائقي الشاحنات، والذي لا يتشجار ينشغل بمتابعة المشاجرات، والسنة هو الخروج من عرفات بسكينة، وعدم الاسراع في الزحام، وقد خرج الرسول –صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بيده الكريمة: أيها الناس السكينة السكينة
وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يشد زام ناقته القصواء، حتى لا تسرع، واذا وجد مكانًا فسيحًا يرخي لها الزمام، وهكذا... وكأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلمنا الآن القيادة في هذا الموقف
ثم بعد أن يصل الناس الى المزدلفة ينشغلون بجمع حصى الرجم، وبعض شركات السياحة توزع بطاريات وأكياس صغيرة لجمع الحصى، وهذا غير صحيح لأن جمع الحصى يكون من أي مكان في الحرم
ثم يصلون المغرب والعشاء وينطلقون الى منى، ولا يمكثون الا قدر يسير ويقولون يكفي المرور بمزدلفة، وهذا رأي ضعيف
والسنة هو أن يبيت الحاج في المزلدفة، يصلى المغرب والعشاء جمع تأخير، بأذان واحد واقامتين، ثم يأكل وينام، ثم يستيقظ لصلاة الفجر، ويجلس يذكر الله بعد صلاة الفجر الى أن يسفر الصبح -يعنى الدنيا تنور- ثم بعد ذلك يتوجه الى منى لرمي الجمار
فاذا لم يفعل ذلك فيظل في المزدلفة حتى يمر نصف الليل، ونصف الليل لا يكون بعد الساعة الثانية عشر كما يعتقد البعض، ولكن يكون بنصف الوقت بين المغرب والفجر، وكان بعض السلف يجعل لذلك علامة أن يغبيب القمر، وغياب القمر في ليلة العاشر يكون في الثلث الأخير من الليل
وأكثر العلماء أن المبيت بمزدلفة من واجبات الحج
وقال البعض أنها سنة، وقال البعض أنها ركن
********
(وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ)
الكاف هنا للتشبيه
كما تقول: أكرمه كما خدمك
يعنى أكرمه كرمًا يتناسب مع خدمته اياك
فمعنى (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) يعنى اذكروا الله تعالى ذكرًا حسنًا يتناسب مع هدايته تعالى لكم
********
(وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)
(قَبْلِهِ) تعود الى الهدي، أي كُنتُم مِّن قَبْلِ هدايته لكم
ويمكن أن تعود الى القرآن الكريم، ويمكن أن تعود الى الرسول –صلى الله عليه وسلم- كلها معنى واحد
(مِنَ الضَّالِّينَ) أي جاهلين بالإيمان وبالتكاليف التى كلفكم الله بها
********
) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١٩٩﴾
كانت قريش، والقبائل التى من نسل قريش، وهي خزاعة وكنانة، يُسَمَّوْنَ أنفسهم الحُمْسَ، من الحماسة في الدين، وكان الحُمْسَ لا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ في يوم التاسع من ذي الحجة، وانما يقفون بالمزلدفة، بينما يقف بقية الناس بعرفات، ويقولون نحن قطين الله، أي سكان حرمه، فينبغي ان نعظم الحرم، ولا نعظم شيئًا من خارج الحرم، ولو فعلنا ذلك استخف الناس بحرمكم، والمزدلفة من الحرم، بينما عرفات خارج الحرم
وكانت الحُمْسَ قد ابتدعت لنفسها في المناسك أمور غير ذلك تميزوا بها عن سائر الناس
فيقول لهم الله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) فأمرهم الله تعالى في هذه الآية أن يفيضوا من عرفات وليس من المزدلفة كما يفعل جميع الناس، لأن العبادات توقيفية –كما يقول ابن تيمية- ولا رأي لأحد فيها
ولأن قيمة الحج في ذل العبودية لله تعالى، وقيمة الحج في المساواة بين كل الناس، فاذا ميزت نفسك عن الناس فقد فرغت الحج من مضمونه
فهذا الذي يحج وهناك من يوسع له الطريق، اقول له أنت مسكين، هذا الذي وُسِعَ به الطريق لك، اغتنم من الحج ما لم تبلغه أنت، وهو أقرب الى الله منك بتواضعه لله وذله لله تعالى في هذا الموضع
أكثر العلماء أن المبيت بمزدلفة من واجبات الحج
********
(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
توجيه من الله تعالى الى الآكثار من الاستغفار في هذا الموقف، أي عند الافاضة من عرفات، وعند المشعر الحرام، وهو المزدلفة، مع أنك في أعظم عبادة
وهذه اشارة الى أن الاستغفار لا يكون عند ارتكاب الذنب فقط، ولكن الاستغفار في كل وقت، حتى وهو في أعظم عبادة وهي الحج، حتى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كأن يستغفر الله ويتوب اليه في الجلسة الواحدة سبعون أو مائة مرة
********
|